قبل إنطلاق معارك مدينة حلب المصيرية، كان الإعلان عن فك جبهة "النصرة" إرتباطها بتنظيم "القاعدة" هو الحدث الأبرز على الساحة السوريّة، بالرغم من الغموض الذي لا يزال يعتري هذا الإعلان، لناحية عدم الحديث عنه بشكل واضح في كلمة أمير الجبهة أبو محمد الجولاني، بالإضافة إلى صدوره بناء على توصية من قيادة "القاعدة" نفسها، ما يوحي بأن الأمر تم بالإتفاق بين الجانبين، وليس بناء على مراجعة ذاتية قامت بها الجبهة لمسار عملها، والهدف منه محاولة تجنب الضربات العسكرية الأميركية والروسية.
من الناحية العمليّة، لم تترجم هذه الخطوة إلا لناحية تبديل الإسم، أي بروز "جبهة فتح الشام"، التي ولدت بالتزامن مع الكشف عن وجه الجولاني، لكن على مستوى المنهج الأمور لا تزال كما هي، وهو ما يظهر من خلال الأشرطة والبيانات التي تصدر عن الجبهة الجديدة وإستخدام تعبير "الجهاد الشامي"، الأمر الذي دفع أبرز الفصائل السورية المتحالفة معها إلى تكرار دعواتها السابقة لإستكمال المسار الجديد، كما أن القوى الدولية الفاعلة سارعت إلى التأكيد بأن هذه الخطوة لا تعني أنها لم تعد إرهابية، ما يعني أنها حتى الساعة لم تنجح في تحقيق ما كانت ترغب به.
في هذا السياق، لم يساهم هذا الإعلان في إنهاء الخلافات بين الفصائل المعارضة نفسها، بالرغم من الترحيب الكبير الذي تلقاه في الأيام الأولى، حيث لا يزال الصراع مع "أحرار الشام" المتحالفة مع "النصرة" على هذه النقطة، بعد أن كانت الحركة من أبرز الداعين لهذه الخطوة، وهو ما ظهر من خلال مهاجمة مقربين من الجبهة مسؤول العلاقات الخارجية في "أحرار الشام" لبيب النحاس، على خلفية مطالبته لها بإثبات أن فك الارتباط ليس تنظيمياً فقط، حيث تم الرد عليه بدعوته إلى أن يفك ارتباطه بـ"الطواغيت"، والإشارة إلى أنه يتكلم على خلاف ما كان يتحدث به قادة حركته خلال اجتماعهم مع "النصرة"، ملمّحين إلى "لوبيات" (Lobbies) داخل الحركة تعطّل توحد الفصائل لمصالح تتعلق بتعليمات الداعم، والأمر نفسه تكرّر مع الناطق باسم "جيش الإسلام" إسلام علوش.
ما تقدّم يقود إلى الأزمة الأساس التي كانت وراء خطوة "النصرة"، أي الضغوط التي كانت تمارس من قبل الفصائل المتحالفة معها، بالإضافة إلى الخوف من الإنقلاب عليها عند أخذ القرار الدولي باستهدافها، حيث كان الحديث عن إتفاق روسي-أميركي، من دون إهمال الدعوة إلى الإندماج وتشكيل كيان موحّد، وهي كانت واضحة في الكلمة التي وجهها نائب زعيم "القاعدة" أحمد حسن أبو الخير، كما في تلك التي ألقاها الجولاني نفسه، ما يؤكد أن فك الإرتباط كان مقدّمة نحو ما هو أكبر منه لا أكثر، بطلب مباشر من قبل بعض القوى الإقليميّة الراغبة بالإستفادة من قدرات الجبهة العسكرية سياسياً.
بالإضافة إلى ذلك، لم يساهم هذا الإعلان في معالجة مشكلة أساسية كانت تعاني منها غالبيّة فصائل المعارضة المسلحة، أي الإلتصاق بالجماعات الإرهابيّة، حيث وجدت نفسها، خلال معارك حلب الأخيرة، بين مطرقة قيادتها من قبل الداعية السعودي عبدالله المحيسني، وسندان مقاتلي "الحزب الإسلامي التركستاني"، حيث كان الأخير الرقم الأصعب في المواجهات العنيفة التي شهدتها المدينة، في حين هو مصنف إرهابياً من قبل المجتمع الدولي، كما أن أكثريّة مقاتليه يحملون الجنسية الصينيّة لا السوريّة، وبالتالي لا يمكن أن يكونوا جزءاً من أي تسوية سياسية مستقبلية، مع العلم أن "النصرة" وضعت كل ثقلها في هذه المعركة، التي أرادت أن تكون مقدمة نحو طرح نفسها كفصيل فاعل، لكن بحلّتها الجديدة البعيدة إعلامياً عن "القاعدة".
من حيث المبدأ، ظهرت نتائج هذه الخطوة في الدعم الذي حصل عليه "جيش الفتح"، خلال المعارك الأخيرة، لا سيما على مستوى التعاون بين مختلف الفصائل الفاعلة، لكن هذا الأمر يعود من حيث المبدأ إلى أهميّة المعركة بالدرجة الأولى، وكان من الممكن أن يحصل حتى من دون فك الإرتباط بـ"القاعدة"، نظراً إلى أن إستعادة الجيش السوري السيطرة على حلب يعني حسم نتيجة المعركة بشكل شبه كامل، ما يعني خسارة المعارضة والقوى الداعمة لها كل أوراقها بعد 5 سنوات من الحرب.
في المحصّلة، ستكشف الأيام المقبلة حجم قدرة "النصرة" على توظيف الخطوة التي قامت بها لصالحها، بالإضافة إلى تداعياتها على المشهد السوري العام، لا سيّما في ظلّ التحوّلات التي تطغى على الموقفين الإقليمي والدولي، لكن الأكيد أن مجرد الإبتعاد التنظيمي عن "القاعدة"، في حال كان صحيحاً في الأصل، لا يعني التخلي عما كانت تؤمن به من أفكار وعقائد.