في السابع من يناير 2015 وقع الهجوم على صحيفة شارلي إبدو، عندما إقتحم ملثّمان مقرّ الصحيفة الساخرة في باريس، ممّا أدى الى مقتل 12 وإصابة 11. وفي 14 منه ظهر تسجيل مصوّر تبنّى فيه تنظيم القاعدة العمليّة التي حصلت بأمرٍ من زعيم التنظيم أيمن الظواهري. قامت في فرنسا مسيرة الجمهورية شارك فيها أربعة ملايين متظاهر، وشارك في مظاهرة باريس وحدها مليونا متظاهر خلف 50 من قادة العالم ورؤسائه.
في 25 منه، إلتقيت على عشاء مجموعة من كبار الصحافيين العرب والأجانب، في منزل صديق إلماني متقاعد كان أحد كبار المدراء في الأونسكو، وهو يجاهر بتعاطفه مع العرب. سألني صحافي لبناني متزوج من فرنسيّة ويرأس تحرير قناة فرنسيّة معروفة. ما رأيك سنعود الى لبنان؟ قلت: مستحيل. أنا أقبل بالعودة الى باريس بالموقع ذاته في مجلّة المستقبل والراتب ذاته متخليّاً عن ثلاثة عقود من التعليم الجامعي والمكاسب في لبنان والبلاد العربيّة. أجاب: بالمعلومات، نحن في فرنسا وربّما أوروبا، على أبواب حروب قد تكون أقسى من الحروب الأهلية. قلت إعذرني،هذا نوع من التخريف Hallucination، أجاب: حتّى زوجتي التي لطالما رفضت الإقامة في لبنان تحضّر نفسها والأولاد للعودة الى لبنان حيال كوابيس الإرهاب. وإذ أتحفّظ عن ذكر الأسماء وما دار في اللقاء، يبدو البحث عن الإرهاب والإرهابيين قد صار شاغلاً البال والحبر والدول في العالم لا في فرنسا وحدها، خصوصاً بعدما عرفت أنّ العائلة صارت في بيروت، وبقي رئيس التحرير في باريس.
يمكننا التفكير الحكيم بالكثير من الأجيال الأسيوية العربيّة والإسلامية الواقفة أو المقرفصة فوق شواطيء المتوسط من الجنوب والشرق. أجيال منكوبة بالإحباط الكبير لأسبابٍ لا يكفي مقال لتعدادها، أقلّها التهجير والتشتيت والسحق منذ نكبة فلسطين في ال1948 وصولاً الى مشاهد من اليأس والبؤس تجتاح حقول الشوك الوعرة والحارّة التي أفرزتها فصول "الربيع العربي" بصيغ الجمع وهي تصبّ شلالاتٍ من القهر وردود الفعل التي تساوي الموت بالحياة. هذه مسائل معقّدة جدّاً لا يفكّها علم التحليل النفسي والإجتماعي ولم نعتد عليها. هناك حلم طبيعي بالتغيير لدى الشباب في العالم حيث تقوى في الأعمار الفتيّة أعصاب الرفض ونبراته التي لا يمكن تفسيرها بسهولة. وإذا ما تصاحبت هذه الأحلام بالقسوة والرفض المقابل تتضخّم الحفر والهويات بين الآباء والأبناء. يبدأ الحلم بكيفيّة الإستقلال عن سلطات الأهل والتمرّد على
سلطات المدارس والمجتمعات وصولاً الى نبذ القوانين والأصول والأعراف، وإذا لم يكن هناك من أنظمة ساهرة ورشيدة وإستراتيجيات حضارية وتربوية تسقط المجتمعات في الكوارث.
وإلاّ كيف نفسّر بالمعنى العلمي هذا الإقبال الهائل على العنف؟
كتب الكثير عن الأحلام العربيّة ولربّما نسينا الإنصراف الى التفكير الموضوعي والجدّي بأجيالنا الذين أصابهم الإحباط في تونس والعراق وسورية وليبيا والصومال واليمن وغيرها حيث لا يمكن لنا بعد كلّ ما يحصل أن نبقى ساكنين في المؤآمرة وكبّ المآسي كلّها على غيرنا وخاصة على الغرب. فلنقل أن شرائح من الشباب إستطابت التغيير أوّلاً لكونها تعبت وأعياها الفقر والقمع والسجون، وخيّل إليها بأنّ ذاك الربيع المتنقّل سيغيّر الواقع الذي ضاعف من إحباطهم عندما لم يصل الربيع الى ثمارهم المرجوّة، ولم يلوّح لهم بتطلّعاتهم البسيطة.
ماذا كانت النتيجة؟ كانت كسر حواجز الخوف أوّلاً. هو الجواب المألوف الذي لم تتداركه الأنظمة ولا المفكرين ولا الكتّاب ولا المعلّمين في المدارس والجامعات. هذا ما كنّا نشعر به قبل سقوط بعض الأنظمة التي صمّت آذانها حتّى إنتشار الفوضى والتمرّد. لقد بلغت درجة العنف الكلامي والسلوكي أساساً حدوداً ما كنّا نألفها من قبل. وقد غفلنا ربّما عن مسألة خطيرة إجتاحت أفكارنا وتجتاحها بقوّة حاضراً ومستقبلاً، وهي سهولة التواصل مع الدنيا بما فتح آفاقاً لا تنتهي تسمح بالمقارنة بين الشرق والغرب وبشكلٍ إختلط الشرق بالغرب في مشاهده ووفرته وديمقرطيته. لم يكن أمام شرائح الشباب سوى أمرين: إمّا توضيب أنفسهم وعائلاتهم والإندفاع نحو ضفاف أوروبا المتوسّطية في الغرب والشمال بحثاً عن الأماكن الآمنة حتّى ولو كانت الأرصفة والسجون المؤقّتة في أصقاع الأرض. لم يكن هناك سوى ممرّين: ممر مائي عبر الخوض في مياه المتوسط بما يحوّل أحلامه نحو أوروبا . إذا تحقّقت فبنعمة الله وإلاّ الغرق أطعمةً للأسماك والحيتان وفيها يستعيد المجازف حلم حياته في ما يشبه ماء الرحم إذ يبقى الموت أقلّ قساوةً. وهناك ممرّ برّي لمن إعتادوا اليابسة ولم يعرفوا البحار طيلة حياتهم، حيث يتلاقى الحالمون في الغرب عبر اليباس والماء.
هذا الإنقسام بين اليابسة والمياه في البحث عن أحلام النازحين، كان يهزّ القارة الأوروبيّة والعالم الى قسمين: قسم يشدّ بذراعي أوروبا نحو الآفاق لإحتضان العصافير العربيّة النازحة الميبّسة بأملاح المتوسط أو بوعورة الطرق البريّة، وقسم يكتّف أوروبا ويدعوها الى غلق نوافذها البرية والبحرية بإحكام في وجه الفارّين من النار. الأوّل رفع الصوت بالأفكار الإنسانية التي تقول بالحق بالحياة والكرامة والعطف والحرية والمساواة والثاني ، في المقابل، راح ينبش التاريخ القديم في الأفكار العنصرية والمذهبية والتداعيات الديمغرافية والإقتصادية. وقعت أوروبا في مآزق كبرى هزّت وحدتها التي قال عنها شاعر فرنسي أنّها وحدة خرجت من الفحم الحجري لكنّ سلوك أوروبا تجاه النازحين بحراً وبرّاً هو أكثر سواداً من الفحم الحجري.
قد يكون السبب الأكبر أنّ أوروبا غفلت أو أنّها ما إنتبهت إلاّ متأخّرة، بأنّ الوجه المظلم والبائس الذي عكسته شرائح النازحين سواء بما كانوا يعانون منه في الأوطان الأم، أو ما عانوا منه خلال طرق النزوح التي تقاطر على مفارقها تجارة النزوح وبيع الأسلحة وغسيل الأدمغة أو ما يعانون منه في مخيمات النزوح بات يهدّد نظام "الشينغن" وإعادة ترتيب المرور على المعابر بين دول المجموعة الأوروبيّة، وكلّها مسبّبات أيقظت أمرين: يقظة المهاجرين على حقيقة ما تعانيه أوطانهم وعائلاتهم بالواقع المرّ لا بالصور والأخبارمن ناحية، ويقظة الدم بعد ملاقاتهم مع هؤلاء النازحين من مواطنيهم وأقاربهم، وأحلام الشباب العربي والمسلم الذي راح ينجو في الإتّجاه المعاكس بحثاً الحلّ في القتال أو الموت في الأرض الأولى.
إنّنا أمام أزمنة من العذابات الطويلة في رحلات البحث الفوضوي عن الجذور.