من ضُمن الأقوال اللبنانيّة العاميّة الذائعة الصيت عبارة "سرقة بشرف" للدلالة على سعر مبيع مُنتج معيّن أو خدمة مُحدّدة، يفوق بأضعاف السعر الواقعي والمنطقي. وللأسف إنّ هذه المقولة باتت تنطبق على أسعار مجموعة ضخمة من المطاعم والملاهي والفنادق والمُنتجعات السياحيّة في لبنان، من دون أي حسيب أو رقيب!
البداية مع المطاعم، وحتى بفئتها التي تبيع الأطباق السريعة الإعداد (Fast Food) والتي تستهدف الشباب والمراهقين بالدرجة الأولى والذين يتقاضون مصروفهم من أهاليهم عادة، فإنّ بدل تناول مُطلق أي وجبة فيها لم يعد يقلّ عن 20 $ للشخص الواحد. وبمجرّد الإنتقال إلى المطاعم اللبنانيّة الفاخرة، فإنّ السعر المُتداول بين الأغلبيّة الكبرى من المطاعم هو 35 $ للشخص الواحد (شرط أن لا يقلّ عدد المُشاركين في الوجبة عن أربعة أشخاص)، وهذا السعر يتصاعد بسهولة مع مطاعم الدرجة الأولى. ويبلغ سعر الـFormule للشخص الواحد في أحد المطاعم الراقية في منطقة برمّانا مثلاً 65 أو 75 $ للشخص الواحد، والفارق الإضافي يعود لنوعيّة المشروب المُقدّم ولبعض الأطباق الإضافيّة!
في ما خصّ الملاهي الليليّة، فالمُبالغة في الأسعار تفوق التصوّر، و"صرعة" السهر على السطوح أخذت بالرواج أكثر فأكثر، بأسعار تختلف تبعًا للمنطقة ولطبيعة خدمات الترفيه المُقدّمة، لجهة الطعام والمشروب والفرق الموسيقيّة، علمًا أنّ الأسعار في الملاهي المشهورة لا تقلّ عن 80 $ للشخصين بمعدّل عام. وبات أكثر من ملهى ليلي يفرض سعرًا أدنى يجب دفعه عن كل شخص، حتى لو أنّ هذا الأخير لم يأكل أو يشرب شيئاً، والسعر يبلغ في أحد أشهر ملاهي منطقة "مار مخايل" مثلاً 75 $ للشخص الواحد، ما يعني 150 $ لشخصين يرغبان بتمضية سهرة موسيقيّة مع بعض المأكولات البحريّة والمشروب!
بالإنتقال إلى القطاع الفندقي، وإذا كانت بعض الفنادق تُحافظ على أسعار مقبولة للمنامة، وأخرى تقوم بتخفيضات موسميّة للأسعار، فإنّ بعض الفنادق يقوم في المُقابل بالمبالغة في لوائح أسعار المنامة فيه، حيث تتراوح سعر الليلة الواحدة في غرفة عادية ما بين 300 و500 دولار أميركي. ولمن يظنّ أنّ السعر الأعلى هو لأحد الفنادق في بيروت، لا بُد من تصحيح معلوماته والإشارة إلى أنّ السعر المذكور هو للمنامة في فندق أُنشئ حديثًا في منطقة المِشرف الشوفيّة على بُعد 21 كيلومتر عن العاصمة!
بالنسبة إلى المُنتجعات السياحيّة، لا سيّما البحريّة منها، فحدّث ولا حرج، حيث تبلغ أسعار الدخول في بعض المرافق البحريّة الذائعة الصيت في مناطق جبيل والجيّة والرميلة ما لا يقلّ عن 28 $ للشخص الواحد في عطلة نهاية الأسبوع، ويُمكن أن تصل إلى 35 $ للشخص في أحد المنتجعات البحرية الحديثة في منطقة الكسليك على سبيل المثال لا الحصر. والأسعار "الملغومة" في هذه المرافق البحريّة المُفترض أن تكون سياحيّة، لا تقتصر على تذكرة الدخول، بل تشمل خدمة ركن السيارة (Valet Parking) الإلزامية في كثير من الأحيان، والتي تبلغ 10,000 ليرة لبنانيّة، وخُصوصًا أسعار المأكل والمشرب، مع بيع قنينة المياه الكبيرة الحجم بما لا يقلّ عن 9,000 ليرة لبنانية! وفي حال تجرّأت وسألت عن المنامة لليلة واحدة في عطلة نهاية الأسبوع في أحد الـBungalows المتوفّرين بكثرة في هذه المنتجعات، فإنّ الأسعار تبدأ إعتبارًا من 250 $ لليلة الواحدة (غرفة عاديّة لشخصين) وترتفع تدريجًا حسب قرب غرفة المنامة من البحر وتبعًا لحجمها وما إذا كانت تتضمّن مغطسًا للتدليك بالمياه (Jacuzzi)، ويُمكن أن تصل مثلاً إلى 700 $ لليلة الواحدة في أحد المُنتجعات المشهورة في منطقة الرميلة، مع تشديد على أنّ إدخال الطعام والمشروب ممنوع، وذلك بهدف إرغام النزلاء على شراء وجباتهم من داخل المُنتجع!
وباختصار، صحيح أنّ اللبنانيّين الذين يعملون في الخليج وإفريقيا يُساهمون عن غير قصد برفع هذه الأسعار، حيث أنّهم يحرصون على الإستمتاع بإجازاتهم السنويّة في لبنان إلى أقصى درجة مُمكنة، ويدفعون من دون مُساءلة للتعويض عن غيابهم القسري عن الوطن وحرمانهم الكثير من متعة الحياة، وصحيح أنّ بعض السيّاح العرب يؤمّنون بدورهم رفع الأسعار إنطلاقًا من مبدأ "سياسة العرض والطلب"، فإنّه من غير المعقول أن تُسافر عائلة لبنانيّة مكوّنة من أربعة أفراد إلى فندق بتصنيف "5 نجوم" في مُطلق أيّ منتجع سياحي فاخر على البحر في تركيا أو قبرص أو اليونان، وأن تمضي أسبوعًا كاملاً مع المأكل والمشرب ومصاريف التنقّل إضافة إلى ثمن تذاكر السفر وضرائب المطارات، وتدفع أقلّ بكثير ممّا يُمكن أن تدفعه إذا قرّرت هذه العائلة نفسها أن تُمضي عطلتها في أحد منتجعات لبنان للمدّة نفسها وفي مُقابل الخدمات عينها، هذا إذا ما تغاضينا عن مصبّ مجرور قرب المُنتجع هنا، وعن سموم دخان مصنع للكهرباء هناك، وعن ضجيج سهرات الأعراس حتى الصباح هنالك!
في الخلاصة، نُريد أن نأكل في مطعم شهيّ من دون أن نتعرّض للتسمّم، ونريد أن نمضي نهارًا (أو ليلاً) على البحر أو في الجبل أو في مكان مُسلّ وينبض بالحياة، ونريد أن ننام في فندق نظيف وبخدمات عصريّة... لكنّنا لا نريد أن نقع ضحايا مقولة "السرقة بشرف" التي أصبح عدد التجّار التي يُتقنونها في لبنان، يفوق بكثير عدد التجّار الذين يُقدّمون خدمات جيّدة ويرضون بتحقيق مكاسب ماليّة مقبولة. ومقولات وحجج السلطات الرسميّة بأنّ لبنان يُطبّق مبدأ "الإقتصاد الحُرّ والتنافسي"، ولا سُلطات لوزارات الإقتصاد والتجارة والسياحة على القطاعين الخدماتي والسياحي، ولا صلاحيّات لأيّ جهة رسميّة لتحديد نسبة الأرباح، مرفوضة كلّها وتحتاج للتغيير. وطالما لم يحصل هذا التغيير، فإنّ المقولة اللبنانيّة الثانية الصائبة المُكمّلة لمقولة "سرقة بشرف" هي بدون شكّ "حاميها حراميها"!