خلال أسبوع، طغى الاشتباك بين الجيش السوري وقوات "الاسايش" الكردية في مدينة الحسكة على ما عداه من أخبار المعارك في سوريا سواء في حلب أو دمشق أو سواها، وتبادل الطرفان الاتهامات حول أسباب هذا الاشتباك، الذي يُعدّ الأخطر بين الاثنين منذ عام 2011، خصوصاً أن الجيش السوري نفسه هو من سلّح الأكراد عام 2012.
في خضمّ المعارك، وتبريراً لها، تحدّث الجيش السوري في بيانه عن أعمال استفزازية يقوم بها الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني «الأسايش»، والإعتداء على مؤسّسات الدولة، بينما أشار الأكراد إلى أن النظام السوري يريد أن يكسب ودّ أردوغان بقصفه للأكراد، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشل، وتوتر العلاقات بين الأميركيين والأتراك، والتقارب التركي مع كل من إيران وروسيا.
وبغض النظر عن صحة أي من الاتهامات المتبادَلة بين الاثنين، فإن السعي الكردي لإقامة دولة كردية في سوريا لا شكّ أنه يثير الكثير من التساؤلات والتحفّظات لدى كل من دمشق وتركيا وإيران، ما يسهّل إمكانية التنسيق فيما بينها للقضاء على الحلم الكردي بإنشاء دولة مستقلة.
بداية، إن الادعاء الكردي بالحق بالانفصال عن الدولة السورية واقتطاع جزء من الأراضي السورية باعتبارها جزءاً من كردستان التاريخية هو ادعاء لا صحة تاريخية له، وذلك لما يلي:
1- تاريخيًا، يختلف الوضع الكردي في سورية عن كل من العراق وتركيا، التي يتواجد فيها الأكراد منذ مئات السنين، إذ إن النزوح الكردي إلى سوريا لم يتم إلا بعد المذابح التي تعرض لها الأكراد من "الحركة الكمالية" في تركيا بعد ثورتهم في العام 1925، ما يعني أن الظاهرة الكردية في سوريا لم تكن يوماً جزءاً من حركة قومية كردية تاريخية عمرها مئات السنين.
2- جغرافياً، دولة كردستان بحسب خريطة "اتفاقية سيفر"عام 1920، والتي تُعتبر أول وثيقة دولية تُثبت حق الأكراد في تقرير مصيرهم، والتي يستشهد بها الأكراد للمطالبة بقيام دولة مستقلة، لا تضم لا من قريب ولا من بعيد أي منطقة سورية، ببساطة لأنه لم يكن هناك أي أكراد كقومية تاريخية في تلك المناطق.
3- هذا بالنسبة للتاريخ والجغرافيا، أما في السياسة فالأكراد في سوريا - كما حالهم في العراق - ليسوا موحَّدين أصلاً في النظرة حول مستقبلهم، بل هم منقسمون بين فريق يطالب بالانفصال وقيام دولة مستقلة، وآخر يريد البقاء ضمن الوحدة السورية، مع ضمانات بحكم لامركزي، وحقوق ثقافية ولغوية.
4- بالرغم من التهديدات الخارجية وخطر "داعش"، يبدو الانقسام واضحاً بين مكونات الشعب الكردي، وبينهم وبين القوى العربية والسريانية والآشورية الموجودة في الشمال السوري، ويعود هذا الانقسام، كما الانقسام بين الأحزاب السياسية الكردية في العراق، إلى الاحتدام الإقليمي الذي ينعكس تبايُناً في التحالفات الإقليمية للأكراد؛ فبعضهم يتحالف مع الأتراك وتجده جزءاً من "الائتلاف السوري"، بينما يستمدّ البعض الآخر الدعم من الإيرانيين والنظام السوري.
5- إن الإرث العشائري الكردي ونمط التفكير الاجتماعي الذي ينقسم بطريقة عامودية قائمة على ثنائية الأضداد، وسيادة الفكر الإقصائي والشخصانية والحزبية الإلغائية بين الأكراد يجعلون تحقيق حلم "الدولة المستقلة" صعب المنال، خصوصاً في غياب الممارسة الديمقراطية، وتغليب روح الانقسام على روح التعاون لبناء الدولة الوطنية الكردية. إن دخول الأحزاب الكردية في محاور متناقضة، والتناحر القائم بينها إلى حد الإفناء والإلغاء، يجعلان من الصعب عليها الالتقاء على رؤى موحَّدة لتأسيس "الدولة" الموعودة.
6- يعيش الأكراد اليوم "نشوة" إحساسهم بأنهم صلب الاستراتيجية الأميركية في سوريا، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان، والتي جعلت الثقة مفقودة بينه وبين الأميركيين، ما يعني بطبيعة الحال عدم قدرة الأميركيين على فرض قرارهم على جميع المجموعات المسلحة في الشمال السوري.. لكن النشوة الكردية تلك لا تأخذ بعين الاعتبار أن تركيا - العضو في حلف شمال الأطلسي - تُعتبر ركناً من الأركان التي ترتكز عليها السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ككل، ولا يستطيع الأميركيون التخلي عنها بسهولة ورميها في أحضان الروس، لذلك فإن الأميركيين، ولو كانوا يستندون إلى المقاتل الكردي لتكريس نفوذهم في سورية، إلا أن تأسيس دولة مستقلة للأكراد دونه عقبات كبيرة، ما يجعل الفيدرالية أو اللامركزية أقصى ما يمكن أن يصل إليه الأميركيون في إقناع حليفهم التركي بالقبول به.
من هنا، يبدو الطموح الكردي المتفاقم قاتلاً أكثر منه عاقلاً، فالسير بمسار قتال الجميع، ودفع الأضداد الإقليميين إلى التحالف بناءً على تقاطع المصالح ضد الأكراد، والاكتفاء بالدعم الأميركي المحرَج بالحليف التركي، يجعل من المغامرة الكردية - حتى لو استطاعت اكتساب بعض الجغرافيا السورية - مقامرة غير مضمونة النتائج.