في مثل هذه الأيام من عام 2014، مني جيش الاحتلال الصهيوني بهزيمة قاسية في قطاع غزة اضيفت إلى سجل هزائمه في مواجهة المقاومة في لبنان عامي 2000 و2006، وهذه الهزيمة، التي حاولت اسرائيل قبل ايام الخروج من نتائجها عبر المحاولة الفاشلة لاستعادة قدرتها الردعية التي فرضتها المقاومة، بعد 51 يوما من عدوان هو الأطول في تاريخ الحروب الصهيونية.
فاقدام الطائرات الصهيونية على شن سلسلة غارات هي الأعنف منذ عدوان «الجرف الصامد» رداً على صاروخ سقط في «سديروت»، إنما تندرج في سياق محاولة لإيصال رسالة بأن الظروف تغيرت، وأن إسرائيل لا تخشى التصعيد. لكن طبيعة القصف الإسرائيلي والأهداف تظهر أن الغارات كانت أقرب إلى استعراض.
والتقديرات داخل المؤسسة العسكرية والامنية الإسرائيلية لا تزال ترى أن شيئا لم يتغير بعد، وأن أي مواجهة واسعة كتلك التي جرت عام 2014 لن تكون الجبهة الداخلية الاسرائيلية بمنأى عنها. عدا عن أن نتيجة أي مواجهة جديدة لن تكون مغايرة جوهرياً عن نتائج الجولة السابقة. ورغم تبني وزير الحرب افيغدور ليبرمان لنظرية «الحسم» مع المقاومة، إلا أن هناك فرق شاسعا بين النظرية والتطبيق في الواقع.
إن الهزيمة الاسرائيلية أمام المقاومة الفلسطينية في غزة عام 2014 كان لها بعد استراتيجي حفر عميقا في قلب المؤسسة العسكرية الصهيونية وعقول قادتها ومخططيها. تمثل ذلك في شعورهم المتزايد بعجز قدرة جيشهم على تحقيق النصر في الحرب مع المقاومة، بل أن ما أثار رعبهم وأصابهم بهستيريا غير مسبوقة هو انكشاف هذا العجز في مواجهة قطاع غزة المحاصر منذ سنوات والذي لا تتعدى مساحته الـ640 كيلو متر مربع، ولا يوجد فيه جبال أو وديان، وفي ظل الاختلال الحاد في موازين القوى بين الجيش الإسرائيلي، الذي يعتبر الأقوى في المنطقة، والمقاومة الفلسطينية المحدودة القدرة العسكرية، ومع ذلك فقد أخفق هذا الجيش اخفاقاً مدوياً بعدما علق في فخ المقاومة التي أجادت خوض فنون حرب عصابات متطورة في مواجهته وتكبيده خسائر كبيرة في الأرواح غير مسبوقة في جميع حروبه السابقة حيث قتل باعترافاته أكثر من 70 ضابطاً وجندياً، وجرح نحو 1700 أخرين، فيما تمكنت صواريخ المقاومة محلية الصنع من شل الحياة في عموم الكيان الصهيوني وتعطيل حركة الانتاج والسياحة وبالتالي تعريض اقتصاده لخسائر كبيرة قدرت بعدة مليارات من الدولارات، ومثل هذا الانكشاف في عجز القدرة العسكرية الإسرائيلية عن تحقيق النصر وحماية الأمن الاسرائيلي، أدى إلى نتيجتين سلبيتين بالنسبة لإسرائيل.
الأولى: إضعاف الموقف السياسي للحكومة الإسرائيلية، في المفاوضات غير المباشرة مع المقاومة، والذي تمثل في اضطرارها للقبول بمعظم شروط المقاومة لوقف اطلاق النار.
الثانية: إحداث المزيد من ضعف الوعي الصهيوني والذي تجلى في فقدان المستوطنين الصهاينة ثقتهم بقدرة جيشهم على تحقيق الأمن لهم، ما أدى إلى تصدع الجبهة الداخلية الإسرائيلية وانكشاف عدم قدرة المستوطنين على تحمل حرب استنزاف، وتحولهم إلى قوة ضغط على حكومتهم، بدلاً من ان يكونوا قوة دعم واسناد لها في الحرب.
لقد أدى نجاح المقاومة في اسقاط منظومة الأمن الصهيونية إلى هز مرتكزات وجود «إسرائيل» من جذورها وحطم كل البناء الفكري الذي جرى زرعه في عقول المستوطنين وحفز على هجرتهم إلى فلسطين، القائم على فكرة أن إسرائيل قوة لا تقهر وقادرة على تحقيق الأمن والاستقرار للمستوطنين وتوفير كل أسباب الراحة والرفاه والطمأنينة لهم، وتحويل إسرائيل إلى بلد المن والسلوى الذي يحلم به اليهود الذين جرى استقدامهم من شتى دول العالم.
من الطبيعي أن يكون لمثل هذا التطور تأثير كبير على مستقبل وجود إسرائيل، حيث يعبر قادتها وخبرائها عن قلقهم المستمر من خطر ما يسمونه القنبلة الديمغرافية، فتزداد أعداد المواطنين الفلسطينيين المقيمين في داخل فلسطين بفعل النسبة العالية في الولادات، وتتراجع أعداد الإسرائيليين بسبب قلة الولادات من ناحية وازدياد الهجرة المعاكسة من ناحية ثانية.
ولا يبدو أن الجيش الاسرائيلي يملك عصا سحرية تمكنه من تغيير المعادلة الردعية التي فرضتها المقاومة على مدى 51 يوما من العدوان، لا سيما وأن المقاومة زادت من قدراتها وجاهزيتها لمواجهة أي عدوان جديد يستهدف عبره الجيش الاسرائيلي استعادة قدرته الردعية. وما حصل قبل ايام من محاولة على هذا الصعيد، وقابلتها المقاومة بعرض عسكري، اظهر حجم قدراتها واستعدادها للحفاظ على معادلة الردع. يبين أن المواجهة المقبلة في حال وقوعها لن تكون نتائجها افضل حالا بالنسبة لاسرائيل من نتائج المواجهة السابقة.ولهذا عمد ليبرمان إلى طرح معادلة اعمار غزة مقابل نزع سلاح المقاومة.