حتى الساعة لا معلومات واضحة عما يجري في الشمال السوري، بعد أن ظن الكثيرون أن التحولات الأخيرة كانت تحت سقف تفاهم دولي وإقليمي كبير، فالتطورات المتسارعة تؤكد أن حالة من الفوضى لا تزال تسيطر على المشهد العام، يسعى خلالها كل فريق إلى تحسين أوراق قوته العسكرية، تمهيداً لإستثمارها على طاولة المفاوضات السياسية عندما يحين موعدها.
في الفترة الأخيرة، تم الحديث عن تفاهم أميركي-روسي حول العمليات العسكرية، يتعلق باستهداف الجماعات المتطرفة خصوصاً جبهة "النصرة" أو "جبهة فتح الشام"، بالتزامن مع معلومات عن إتفاق آخر يشمل كلا من سوريا وإيران وتركيا وروسيا حول المسألة الكردية، لكن في حقيقة الأمر كل ما يحصل هو عبارة عن تلاقي مصالح لا أكثر ولا أقل.
من هذا المنطلق، تقرأ مصادر متابعة، عبر "النشرة"، التساهل الأميركي مع العمليّة العسكريّة التركيّة في مدينة جرابلس في البداية، التي كانت تحت عنوان محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، ومن ثم المعارضة الكبيرة لتجاوزها الخطوط المسموح لها بها بعد أن باتت تستهدف عناصر "قوات سوريا الديمقراطية"، نظراً إلى أن واشنطن لا تريد خسارة أيّ من حلفائها في الوقت الراهن، وترغب بالإستفادة من أنقرة والأكراد معاً، لا النزاع بينهما الذي يقيد جهودها بطريقة أو بأخرى.
ما تقدّم ينطبق على غضّ النظر الروسي والإيراني والسوري عن العملية العسكرية أيضاً، التي جاءت بعد أيام من إشتباكات عنيفة وقعت بين وحدات الجيش السوري و"وحدات حماية الشعب" في الحسكة، حيث كان الهدف تسليف أنقرة موقفاً من القضية التي تعتبرها تهديداً لأمنها القومي، أي نشوء كيان كردي على حدودها الجنوبية، بالإضافة إلى التقاء مصالحهم معها، خصوصاً دمشق وطهران، بالنسبة إلى هذا التهديد، فالدول الثلاث تتفق على خطورة هذا التهديد على وحدة أراضيها في المستقبل.
بالنسبة إلى هذه المصادر، ما زاد من المشهد تعقيداً أيضاً، هو الموقف الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية، الذي نفت من خلاله وجود أي تنسيق مع موسكو حول الأوضاع السياسية أو العسكرية في سوريا، بالرغم من كل التسريبات الإعلامية السابقة، الأمر الذي تم تأكيده من قبل الكرملين، عبر الإشارة إلى أن التعاون الحقيقي بين البلدين بشأن التسوية في سوريا لا يزال بعيداً، ما يفتح الباب إلى طرح جملة من التساؤلات المشروعة حول مستقبل الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط.
من حيث المبدأ، المشهد الحالي يوحي بأن هناك محاولة لرسم مناطق نفوذ لمختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين، من دون أن يعني ذلك الوصول إلى أي تسوية تذكر، فالموعد لم يحن بعد بانتظار نضوج أفضل، وهذه المناطق سترسم على وقع محاربة "داعش"، بالرغم من الخلافات التي قد تقع حتى بين أركان التحالف الواحد، من دون أن يعني ذلك السماح بالوصول إلى مرحلة الصدام بين القوتين العظميين.
وتعتبر المصادر نفسها أن ما يحصل بين الأكراد وتركيا أكبر دليل على ذلك، فواشنطن تريد الهروب منه نحو التنظيم الإرهابي، على أمل تأجيل الصراع بينهما في المرحلة الحالية، بحيث تكون منطقة شرق الفرات من مسؤولية "قوات سوريا الديمقراطية"، التي طلبت منها التوجه نحو مدينة الرقة، وتنظيم منطقة غرب الفرات من مسؤولية القوات التركية وفصائل المعارضة المسلحة المتعاونة معها، ضمن الهدف نفسه أي محاربة "داعش"، فالولايات المتحدة لن تدخل المعركة بجنودها، وبالتالي لا مانع لديها من من حلفائها يتولى السيطرة على الأرض، شرط الإلتزام بالخطوط المرسومة لهم، وهي منذ اليوم الأول تسعى للوصول إلى هكذا تفاهم.
في الجانب المقبل، لم تكن روسيا أو إيران أو سوريا راغبة بالدخول إلى منطقة صراع النفوذ بين حلفاء الولايات المتحدة، لا بل على العكس من ذلك هذا المحور كان يتوقع الصدام ويأمل الإستفادة منه، وهو ما يُفسر تأخر الرسالة الإحتجاجية التي بعثت بها دمشق إلى الأمم المتحدة، رداً على التدخل التركي في أراضيها، إلا أن الرهان كان على ما يبدو تخفيف الضغط القائم على جبهة حلب، حيث المعركة الكبرى القائمة منذ أشهر عديدة، الأمر الذي تراجع من دون أن ينتهي، لا بل من الممكن رصد تصعيد جديد تمثل بالهجوم الذي قامت به فصائل سورية معارضة قريبة من تركيا نحو مدينة حماه عبر ريفها، التي تعتبر نقطة إستراتيجية هامة بالنسبة إلى دمشق لا يمكن السماح بسقوطها.
قد يكون الخطر الأكبر بالنسبة إلى المحور المعارض لواشنطن، من وجهة نظر المصادر المتابعة، يتمثل بالسيطرة التركية على المناطق الواقعة في ريف حلب الشمالي، أي الإنتقال نحو الباب ومنبج، نظراً إلى أن هذا الواقع سيمثل تهديداً كبيراً لمواقعه في المدينة، في حال حصوله من دون إبرام أي تفاهم مع أنقرة، ويكون الرهان على تحول في سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الأزمة السورية ليس خاسراً فقط بل كارثياً، ولكن هل كانت دمشق وطهران وموسكو بهذه السذاجة في التعامل مع الحدث أو لم تكن تملك أي أوراق قوة ضده؟
في المحصلة، الصورة في الشمال السوري لم تتضح بعد، بحسب ما هو معلن، وكل المعلومات عن إتفاقات وتفاهمات لم يظهر لها أي أساس حتى الآن، باستثناء التوافق على تقاسم مناطق نفوذ لا يمكن الركون إليه.