لم يكن الإمام موسى الصدر رجل دين شيعيًا، ولا مصلحًا إجتماعيًا، أو مفكّرًا إسلاميًا فحسب.
كانت خطواته لافتة تحديداً تجاه المسيحيين في الشرق، لم تخلُ مناسبة عنده من دون الإشارة الى دور المسيحيين في بناء الأوطان.
كان يجاهر في محاضراته وخطواته بأهمية هذا الدور في ربط الشرق بالغرب.
بالدرجة الأولى إنطلق الامام المجدّد من الهدف الانساني في حركته الجامعة، لم يكتف بالتنظير، بل ترجم كلامه على أرض الواقع.
ها هو عام 1976 يزور الفاتيكان للقاء البابا الذي تبرع بالمال للإمام الصدر دعماً لحركته، لكن الامام كان يتمشى في أحد الشوارع، فسأل عن كنيسة لم يتم إعمارها بالكامل، قيل له انها تنتظر جمع الاموال لإستكمال البناء، فأقدم على التبرع بالمال للكنيسة.
ها هو أيضاً في كنيسة الكبوشيين يعلن "ان الاديان كانت واحدة، لأن المبدأ الذي هو الله واحد، والهدف الذي هو الانسان واحد، وعندما نسينا الهدف وإبتعدنا عن خدمة الانسان، نبذنا الله وإبتعد عنا، فأصبحنا فرقاً وطرائق قدداً"...
كان مسعاه يصبّ في إطار تقريب المسافات بين المسلمين والمسيحيين أبعد من حدود لبنان، لأنه كان يعي أن إفراغ الشرق من مسيحييه مؤامرة لتصحير المنطقة برمتها.
خاطب المسلمين والمسيحيين بالآيات القرآنية والدلائل الرسالية، فعرض في محاضراته موضوع تتالي الاديان السماوية بقوله: "ان الرسالات الإلهية ذات أطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الانساني، تليها رسالة الانبياء، وأخيراً رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشاكل التي يعاني منها الانسان والتي هي محركات لدفع الانسان الى الخير والكمال".
حارب الامام الصدر من جعل المذهب أو الدين مركباً جديداً للخلافات، من خلال مقاربته بين روحية ما جاء في القرآن والإنجيل ليبيّن وجه الاتفاق بينهما ودعوة الانبياء الى احترام حرية الانسان كإنسان.
هو استحضر مثلاً الآية القرآنية من سورة المائدة التي تقول: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
كما ارتكز الى ما جاء في الإنجيل: "لَيسَ يَهودِيٌّ وَلا يونانِيّ. لَيسَ عَبدٌ وَلا حُرّ. لَيسَ ذَكَرٌ وَأُنثى، لِأَنَّكُم جَميعًا واحِدٌ في لمَسيحِ يَسوع. فَإِذا كُنتُم لِلمَسيحِ، فَأَنتُم إِذَن نَسلُ إِبرَهيمَ وَوَرَثَةٌ بِحَسَبِ لمَوعِد"(رسالة بولس الى أهل غلاطية).
عندما شكا بائع البوظة في صور من فتوى لأحد رجال الدين الشيعة تحرّم أكل المسلمين البوظة من من متاجر المسيحيين، نزل الامام الصدر على الارض بعد صلاة الجمعة، ودعا المصّلين لأكل البوظة عند البائع المسيحي، فإنتشر الخبر بين الناس، فحطّم تلك الفتوى التي لا تستند لا الى دين ولا علم أو إجتهاد.
وحين عرف ان إطلاق النار يطال في البقاع أهالي دير الاحمر وشليفا والجوار، أطلق شعاره الشهير: من يطلق النار على دير الاحمر... كأنه يطلق النار على عمامتي وجبتي ومحرابي... وتوجه بعدها الى تلك المناطق المسيحية يدخل بيوتها ويطمئن ان أمر الدفاع عنها واجب على المسلمين قبل المسيحيين.
هكذا كان يمنع التهجير والتقسيم، وينبذ التفرقة ويحارب الفتنة. تصدى لتلك المخاطر ورأى فيها مشاريع اسرائيل ثانية.
كان الامام الصدر يعي خطورة المؤامرة التي تهدف الى ضرب المسيحية المشرقية، فحارب من أجل بقائها راسخة في أرضها جنوباً وبقاعاً وشمالاً في لبنان. فمن يتعظ الآن من تجربة الإمام الصدر؟
بعد 38 عاماً تتغير المعادلات في الشرق بتهجير المسيحيين من سوريا والعراق ودول عربية أخرى، وتتزاحم التحديات في لبنان، فيدفع المسلمون الحقيقيون الثمن بتقدم التكفيريين وإمتداد مساحة الارهابيين.
ما بين إسلام الامام الصدر و"إسلام التكفيريين" تنحاز الاغلبية العظمى من المسلمين الى الخيار الاول الذي يرى في الانسان هدفاً، والدين وسيلة، لا الدين هدفاً مشوّهاً والانسان وسيلة لتجّار الدين.