تتسارع المواقف والأفعال التركية على المستوى الداخلي والخارجي، خصوصاً في سورية، حيث ينقسم المراقبون إلى فرقين؛ الأول متفائل ويعتبر أن تركيا غادرت خنادقها الأميركية ودعم المعارضات السورية لإسقاط الرئيس الأسد وتفتيت سورية أو استعمارها من جديد، وتوسيع لواء الإسكندرون ليضم كل سورية إليه، وذلك بسبب الانقلاب الفاشل الذي لم تتوضح معالمه ووقائعه الحقيقية حتى الآن، بالإضافة إلى شعور الأتراك أنهم مهدَّدون على مستوى الكيان والدولة التركية من الأكراد الذين يراكمون إنجازاتهم في سورية والعراق وتركيا على طريق إعلان "كردستان الكبرى"، التي ستسلخ 20 مليون كردي - تركي مع الجغرافيا التي يسكنون عليها، مما يفتّت تركيا ويفسح الطريق أمام الأتراك العلويين للعودة مع جغرافيتهم أيضاً إلى الدولة الأم سورية.
يتراقص أردوغان وحيداً على حبال الانقلاب وتطهير الدولة من خصومه، وفي مقدمتهم فتح الله غولن، وعلى الحبال الكردية في الداخل مع "حزب العمال الكردستاني" ومع الأكراد في سورية، دون مغادرة مواقعه في دعم المعارضات السورية ضد النظام والجيش السوري، مع بعض تدوير الزوايا في التصريحات الإعلامية التي تحمل بعض التراجع التكتيكي حول مصير الرئيس الأسد، دون أفعال حقيقية ملموسة على الحدود التركية - السورية.
أما الفريق الآخر المتشائم فيرى أن تقاطُع المصالح الظرفي بين محور المقاومة وتركيا فرضا على الفريقين المساكنة الميدانية والسياسية، نتيجة الصمود والانتصارات التي تحقّقها سورية وحلفاؤها في الميدان، وغباء ومغامرة الأكراد الذين وقعوا في فخ الوعود الأميركية الخادعة، والتي سرعان ما تراجع عنها الأميركيون وأمروا الأكراد بالانسحاب من منبج إلى شرق نهر الفرات، وفق الشروط والمطالب التركية.
صحيح أن سورية وحلفاءها يستفيدون الآن من الاستدارة التركية، ومن الصراع التركي - الكردي، وعلى ضفافه الصراع مع "داعش" ضد الفريقين، سواء بالظاهر أو الميدان، لكن ذلك مرهون بالتوسع التركي في الشمال السوري لتهيئة جغرافيا نقية للمعارضات السورية التي تدار من تركيا، لفرضها على طاولة المفاوضات كفريق مستقلّ عن وفد الرياض، الذي احتكر تمثيل المعارضة، والذي تديره السعودية، وتمّ إقصاء تركيا وقطر من الشراكة السياسية، وحصد النتائج، إن وُجدت، ودعم هذه المعارضة في معركة حلب، لإرساء معادلة دمشق - حلب، والتي تؤشر إلى بوصلة الحل في سورية، فإذا تمادت تركيا في ذلك فإنها تضع جيشها بمواجهة الجيش السوري، وما سينتج عنه من تداعيات دراماتيكية تستدعي التدخُّل الإيراني والروسي بشكل رسمي واضح، وخطورة استدراج "الناتو" للمعركة لدعم تركيا، وهذا ما لا تريده أميركا وروسيا وبقية العالم، نظراً إلى تداعيته العالمية الكارثية.
الظاهر أن روسيا وأميركا كممثلَين للمحاور المتصارعة يريدان التعجيل بالحل السياسي في سورية والمنطقة كسلة واحدة لا تستثني البحرين واليمن والعراق وسورية ووراءها لبنان، لحماية مصالحهما وحصار الجماعات التكفيرية من "داعش" و"النصرة"، اللتين بدأت جحافلهما تتفلّت من السيطرة الأميركية والأوروبية وتهدد الأمن العالمي، والاكتفاء بتجميع بعض المعارضات السورية ووصفها بـ"المعتدلة"، وضمّها إلى حكومة وحدة وطنية برئاسة الرئيس الأسد، والمراهنة على الزمن لتغيير الواقع السوري على نار هادئة وبـ"القوة الناعمة" بعد فشل الحرب المدمّرة منذ حوالي ست سنوات.
هل تريد أميركا تبديل أولوياتها والبدء بتقسيم تركيا ونقل المشكلة إلى الداخل الإيراني الذي تعتبره العقبة الرئيسية أمام مشروعها، ثم الانقضاض على روسيا ثانية، لتفكيكها كما فعلت بالاتحاد السوفياتي سابقاً؟
أميركا تخطط ومحور المقاومة مع شركائه يتصدى، وليس كل ما تكتبه أميركا يصبح واقعاً و"قدَراً".. لكن الثابت أننا ندفع ونخسر جميعاً، والرابح الوحيد هي أميركا والعدو "الإسرائيلي"، وكلنا ضحايا، بمن فيهم الأتراك؛ ذاك الشعب المسلم الذي انتظر أكثر من خمسين عاماً بعلمانيته لدخول الاتحاد الأوروبي، ولم يفز بالجائزة ولن يفوز مهما تنازل، وكذلك الأخوة الأكراد ضحايا القوى العالمية منذ الحرب العالمية الأولى، ولم يتعلموا من التاريخ.
تركيا تتخبط وتلطم نفسها وجيشها، وتضرب بكل الاتجاهات.. فهل يُسقطها الأميركيون لنسقط بعدها، أم تستيقظ وتعود إلى رشدها وأمّتها فننجوا جميعاً؟