يمكن اطلاق عبارة "الدبلوماسية الراقية" على "الدبلوماسية الهولندية". فهي تتميز بالقدرة على ايصال الفكرة بأقل جهد ممكن، ليس هذا فحسب، بل هي قادرة على اللعب مع الكبار وادراك التفاصيل، وان كانت تحبذ الظل كساحة للتعاطي مع الفرقاء، فلا تنغمس في كواليس المجهول، ولا تتطرف الى سياسة اللامعقول.
"النشرة" التقت سفيرة هولندا في لبنان هيستر سومين، وكان معها هذا الحوار.
- تعتبر هولندا إحدى الدول الستة المؤسسة للمجموعة الأوروبية، هل ما حصل في أوروبا مؤخراً، اقتصادياً وأمنياً، وانسحاب إحدى الدول الكبرى كبريطانيا، هو أمر متوقع؟
- كما هو واضح، ان الاتحاد الأوروبي يمر بمرحلة من الضغوطات. بعض الدول لديها مشاكل اقتصادية والبعض الآخر أمنية، اضافة لموضوع الهجرة. هذه الاشكالية الأخيرة لها ارتباط بسيادة الدول الأوروبية، لاسيما مسائل الحدود والوضع الأمني. وهذا موجود على مستوى العالم، كما هي حال الولايات المتحدة على سبيل المثال. والسؤال المطروح لدى الشعوب الأوروبية، هل الحاجة للاتحاد الأوروبي ما زالت موجودة. وقد شددنا على تلك المسائل خلال رئاستنا للاتحاد الأوروبي في نصف السنة الأخيرة في محاولة لايجاد التوازن بين الدول كحالة مستقلة، ومنظومة الاتحاد الأوروبي.
- قطعتم مسافة زمنية طويلة منذ بداية الخمسينات، هل ما يتحكم في العالم هو القرارات الاقتصادية والأمنية، اذا ما لحظنا المشاكل في الدول الأوروبية- المتوسطية؟
- هنالك قراءة لدى الجيل الجديد في أوروبا، حيث يخشى هذا الجيل أن يتأزم وضعه العام في المستقبل وفق المعايير الاقتصادية الأساسية، وأن تخضغ الحريات العامة لضغوط، خاصةً حين تتم مقارنتها بالأسس التي عاشت عليها عوائلهم في السابق. هذا الشك حيال المستقبل موجود في هولندا على سبيل المثال، وهذه القراءة يمكن قراءتها في لبنان كمثال، أي الخوف من المشاكل الديموغرافية، والعمل، والمشاكل المرتبطة بالتوازن في السلطات، في حال بقاء النازحين في لبنان.
- وماذا تعتقدين حيال هذا الوضع في لبنان، هل اللبناني محق في تخوفه، لا سيما أن لديه تجربة التواجد الفلسطيني في لبنان؟
- أنا متأكدة بأن اللبناني كان مضيافاً بشكل كامل منذ بداية الأزمة، وهذا ما احتاجه النازح منذ قدومه، هذا النازح الذي لا يملك الخيارات. الوضع الفلسطيني لا يشبه وضع النازح السوري. كما أن الوضع في سوريا سيجد حلاً في نهاية المطاف، يضمن لهم العودة بأمان و كرامة.
- حل سياسي؟
- نعم، حل سياسي. وهذا ما سيسمح للنازحين بالعودة الآمنة والكريمة. وفي هذه الأثناء، تقع المسؤولية المشتركة على المجتمع الدولي والحكومة اللبنانية اللذين عليهما أن يسعيا جاهدين لتوفير الحياة الكريمة للنازحين، ودعم المجتمعات اللبنانية المضيفة بالتالي.
- وهل هذا ما يقوم به المجتمع الدولي، ونحن لا نتحدث عن هولندا تحديداً؟
- بعد مؤتمر لندن الذي أقيم في شباط 2016، كان هناك حث من المجتمع الدولي للدعم المالي، ودعم البنى التحتية، ايجاد وظائف عمل، والمساهمة بالتنمية الاقتصادية.
- ولكن الحكومة اللبنانية تقول بعدم جدية المساعدات التي لا تصل للحكومة في حال أقرت، وفي حال أقرت ووصلت فهي لا تُصرَف، فما هو رأيك؟
- المساعدات جدية، المسألة أنها لا تمر دائماً بالقنوات الرسمية، وفي معظم الأحوال تمر عبر وكالات الأمم المتحدة، وبالتنسيق مع الوزارات، كما هي حال وزارة الزراعة والأشغال العامة، كذلك الأمر بالنسبة للمشاريع المائية كالليطاني وبحيرة القرعون. الدعم موجود، والقلق هو ضمان الاستمرارية، لا سيما أن المسألة السورية تحتاج للوقت.
- هل تعتقدون أن الأجهزة الرسمية قادرة على الاستمرار، فعكار لوحدها تحتضن 750 تجمعا للنازحين السوريين، هل يمكن أن يعمل على المناطق الآمنة للنازحين داخل سوريا؟
- هنالك نقاش فعلي حول هذه المسائل، ولكنني لا أرى أين هي الأماكن الآمنة داخل سوريا. النزاع العسكري مستمر، ويجب الحصول على التزام الأطراف. وفي العديد من الأماكن، لا يوجد إمكانية لإيصال المساعدات. هناك 7 مليون نازح داخلي لذا يجب دراسة الموضوع بتأن، وهذا ما طلبه رئيس الوزراء اللبناني في القمة العربية. أحد الحلول الأكثر عملية هي البحث في الدول العربية عمن يريد الحصول على خبرة اليد العاملة السورية، لا سيما في دول الخليج، وزيادة الدعم للبنان وللبنانيين. أعتقد أن لبنان قادر على الاستفادة أيضاً من هذه الخبرة عبر استخدام هذا الدعم لحل المشكلات الطويلة الأمد المتعلقة بتقديم الخدمات. فضلاً عن ذلك، إن استيعاب لبنان للنازحين يمكن أن يساعد على ترسيخ علاقة جيدة بين الشعبين السوري واللبناني.
- وعلى ذكر المساعدات، هل تساهمون في ميزانيات الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها؟
- نعم وهذا صحيح، فقد أنفقنا من 2012 الى الـ2016 حوالي 120 مليون دولار، وقد كانت المبالغ مخصصة لتعليم الأطفال السوريين واللبنانيين، والدعم الغذائي، ودعم المجتمعات المضيفة المحلية والبلديات. ومع زيارة رئيس الوزراء الهولندي في أيار وهي الزيارة الأولى لرئيس وزراء هولندي، فقد وعد بالمساهمة بمبلغ 86 مليون يورو كدعم بنيوي لقطاعات مثل الزراعة والمياه، التعليم الثانوي والمهني، الإنماء الإقتصادي وخلق فرص العمل و دعم البنى التحتية.
- هل تعتبر هذه المساهمة مقبولة نسبة لغيركم من المانحين؟
- نحن من دون شك من الدول العشرة الأولى كما أن المساهمة الانسانية مستمرة. بالإضافة لدعمنا في ضوء الأزمة السورية، نحن مستمرون كذلك ببرامجنا لنزع الألغام، وببرنامج خاص بحقوق الانسان، وبرنامجنا لتفعيل مبدأ المساءلة وخلق بيئة إقتصادية ملائمة. نحن نساعد على قدر المستطاع في ترسيخ بعض القواعد والمعايير الدولية، لذا ندعم القطاع الخاص من أجل تطويره وتحفيزه، ونحن سنعمل مع IDAL وغرفة التجارة على سبيل المثال من أجل تطوير المنتج الزراعي لكي يصبح قادراً على دخول الاتحاد الأوروبي.
- بالعودة للسياسة، ما هو رأيكم في فراغ سدة الرئاسة، والانتخابات النيابية المقبلة؟
- هناك حاجة ضرورية لانتخاب رئيس، وهذا يجب أن يكون خياراً لبنانياً، ما يهمنا من جانبنا استقرار لبنان. أما عن قانون الانتخابات، فالقول بتحديد قانون معين كالنسبي أو الأكثري، هو كلام يجب أن يحدده اللبنانيون، اذ أنّ دولاً كثيرة في العالم تعتمد الأكثري، فيما تعتمد دول أخرى النسبي. يمكنني أن أذكر هنا بعض توصيات الإتحاد الأوروبي في إطار الإستعراض الدوري الشامل التي ركزت على ضمان كوتا نسائية والتي برأيي يجب أن تكون 30% على الأقل، على فرض صمت إعلامي قبل الإنتخابات وعلى استخدام اللوائح المطبوعة مسبقاً. كما أن تخفيض سن الإقتراع يُعَد توصية مهمة. في الانتخابات البلدية الأخيرة تبين أن العامة تبحث خدمات أفضل، فمشاكلها اليومية أكبر من السياسة.
- هل يمكن للعامة الحصول على حلول لهذه المشاكل؟
- لقد قلت هذا الأمر في أحد خطاباتي. وقلت حينها أن اللبنانيين بحاجة للتخلص من الفساد، وهو تهديد أكبر من الوجود السوري بنظري. بسبب الفساد والمحسوبيات وغيرها من الأسباب يهاجر الشباب، ربما لفقدان الأمل، حيث يعتبرون أن لا مساحة لهم لتغيير النظام السياسي.
- أمنياً الوضع في لبنان دقيق جداً، ما حصل في القاع، وضع المخيمات الفلسطينية، الخ. كيف تنظرون الى الوضع الأمني في لبنان؟
- بصراحة، أنا لست قلقة كثيراً على المدى القصير، المؤسسات الأمنية تقوم بواجبها بشكل جيد. ما حصل في القاع قد حصل، و ما حصل في أوروبا شبيه بما حصل في لبنان، ولكن ما يجب أن يتعلمه الأوروبيون من اللبنانيين هو كيفية الاستمرار في الحياة اليومية، اذ لا يمكنك العمل في ظل القلق الدائم. ما يقلقني أكثر هو إستقرار لبنان على المدى المتوسط والطويل.
- هل يمكن ربط النزاع العسكري في سوريا والعراق بما يحصل؟
- ممكن، قد تحصل محاولات ارهابية اذ أن النزاع قائم في المنطقة. والحلول السياسية غير ناضجة، وهذا النوع من المنظمات تحيا بهذه الطريقة، ولكن يجب مواجهتها، ونحن قادرون على ذلك.
- السؤال الاخير عن النزاع القائم بين المحكمة الخاصة في لبنان والاعلام، هل من الذكاء محاكمة الاعلام؟
- ما زلت على قناعة تامة أن المحكمة الخاصة بلبنان ضرورة، حيث أنها أول محكمة دولية تركّز على عمل إرهابي. الاغتيالات السياسية أصبحت طبيعية في لبنان، لذا أعتقد أنه من الضروري كسر هذا النمط من الإفلات من العقاب. أما في ما يتعلق بإنتهاك حرمة المحكمة، فإن الإدعاء يجب أن يضمن السرية التامة من أجل حماية الشهود. إن كانت المنشورات الإعلامية تهدد هذا الأمر، يمكن للإدعاء أن يطلب من القاضي التأكد من حصول خرق ما. من الجيد أن تتم هكذا إجراءات مهما كانت النتائج، هذا هو العمل القضائي. برأيي ان فشل المحكمة سيكون في عدم تطبيق المعايير القانونية الدولية.