ما لم تستطع تركيا فعله منذ اندلاع الأحداث الدامية في سورية في شهر آذار 2011 في إنشاء حزام أمني في الشمال السوري المحاذي لحدودها، نتيجة الصعوبات التي وجدتها، جراء الصمود العسكري للجيش العربي السوري، والمحاذير والمخاوف التي نجمت عن التواجد العسكري الروسي المكثف ومشاركته الفعلية في العمليات العسكرية السورية وتوفيره الحماية الفعّالة للأجواء السورية الشمالية وضربه بكثافة مواقع الإرهابيين، بالإضافة إلى الموقف السياسي لموسكو الداعم للدولة السورية في مواجهتها للإرهاب، فقد استطاع الأكراد و»قسد» بالذات أن يعطوا فرصة ذهبية ويقدّموا لتركيا وجيشها طبقاً شهياً تنتظره منذ سنوات، يتيح لها غزواً «شرعياً» جديداً لسورية تحت ستار مواجهة الإرهاب والقضاء عليه.
لقد ظنّ الأكراد أنهم وبالرعاية الأميركية التي توفرت لهم وأُنعمت عليهم لعقود، باستطاعتهم التوغل غرباً بموازاة الحدود التركية، ليحققوا أهدافهم وينشئوا حزاماً كردياً بدلاً من الحزام التركي، يؤسّس في ما بعد لدولة كردية علت أصواتها في الآونة الأخيرة، بدون معارضة أو اعتراض، غير مكترثين وعابئين لتداعيات ومحاذير هذا التمدّد العسكري الجغرافي على حساب مصالح استراتيجية لدول معنية مباشرة بهذا التحرك واستحقاقاته البعيدة وأهدافه الواضحة وهي تركيا وسورية وإيران والعراق، وكذلك التأثيرات والنتائج التي سترمي بظلالها على العلاقات التركية الأميركية وما قد ينتج عن ذلك من تغييرات في السياسات والاستراتيجية فيما لو تغاضت الولايات المتحدة عن التمدّد الكردي، ليصبح الأمن القومي التركي على المحك، لا تستطيع أنقرة بأيّ حال من الأحوال التفريط به وهي العضو الفعّال والمؤثر في الحلف الأطلسي، الذي يتوجّب عليه الأخذ بمصالحها لا بمصالح الأكراد.
تركيا التي عزمت على اقتناص الفرصة للتمدّد في شمال سورية، أقدمت على ضرب داعش في جرابلس وغيرها من القرى، وأرادت أن تظهر للمنطقة ولدول العالم أنها جادّة في ضربها قواعد الإرهاب وركيزته داعش، وهي التي وفّرت على مدار سنوات الغطاء العسكري واللوجستي والمخابراتي والدعم الكامل لكلّ التنظيمات الإرهابية بدون استثناء، طالما أنّ هذه التنظيمات التي تختلف بالشكل والأساس في ما بينها، أجمعت على هدف واحد تباركه أنقرة وهو إسقاط النظام في دمشق، وتباركه معها الولايات المتحدة وحلفاؤها وعملاؤها في عالمنا العربي. وإذا كان هدف تركيا «المسرحي» القضاء على داعش، فأين كانت تركيا قبل تمدّد قسد والفصائل الكردية معها عندما كان الإرهابيون، ومنهم داعش، يضربون أينما كان وكيفما كان، يسرحون ويمرحون على حدودها من تركيا وإليها، منها يدخل إلى سورية المرتزقة والسلاح والأعتدة، والطارئون يتدفقون عليها عبر البوابة التركية برعاية الباب العالي وعطفه؟!!
مما لا شك فيه أنّ التنسيق والتواطؤ يُمارسان على الأرض بين الأميركان والأتراك. فلو كانت واشنطن ضدّ التمدّد الكردي من الأساس لما كان، ولو كان الأميركان ضدّ التوغل التركي داخل الأراضي السورية لما كان أيضاً. فالهدف التركي يلتقي ويتقاطع مع الهدف الأميركي «الإسرائيلي» في إسقاط النظام السوري، وفي دعم المعارضة السورية، وهو لم يتوقف في توفير الدعم الكامل لقوى المعارضة السورية على أنواعها، إرهابية كانت أم شبه إرهابية، رغم كلّ التعديلات والمفردات التي طرأت وتطرأ على تصريحات المسؤولين الأتراك والأميركيين حيال سورية ونظامها ورئيسها من آن إلى آخر.
واشنطن وأنقرة ترى اليوم أنّ الفرصة سانحة كي يتمدّد الجيش التركي في الشمال السوري، وينشأ حزام الأمر الواقع الأمني الذي تديره أنقرة – وما أشبه الحزام الأمني التركي الجديد، بحزام أنطوان لحد الإسرائيلي في جنوب لبنان – والذي ستحتمي به وتنضوي تحت لوائه الفصائل المسلحة السورية المعارضة وعلى رأسها «الجيش الحر» والنصرة بتسميتها الجديدة، وكلّ الفصائل الإرهابية المتطرفة والمحاطة بالرعاية العسكرية التركية والدعم المالي العربي السخي بلا حدود. فتحييد الأكراد عن الساحة الشمالية السورية، والقضاء على داعش «نظرياً» سيمهّد الطريق أمام تركيا وخلفها، كي تكون للمعارضة المسلحة السورية جبهة عريضة تنطلق منها مع كلّ ما يتوفر لها من إمكانات الدعم للاستمرار في حربها ضدّ الدولة السورية، وإحداث تغييرات جغرافية وديمغرافية على الأرض. فالإمدادات العسكرية للفصائل المسلحة السورية، إرهابية كانت أو غير إرهابية، لن تتوقف من الجانب التركي والأميركي و»الإسرائيلي» والعربي، طالما أنّ الهدف المشترك هو استنزاف الجيش العربي السوري وحلفائه على الأرض، روسيا وإيران وكلّ فصائل المقاومة الداعمة والمساعدة والمشاركة في الحرب ضدّ الإرهاب وداعميه.
السلوك الأميركي – التركي «الإسرائيلي» والبعض العربي لم يتغيّر حيال سورية ودورها وموقعها ورسالتها… لا يزال هو هو… فالأكراد رموا الكرة للأتراك غباءً أو سوء تقدير لأفعالهم وتحركاتهم… فتلقفها التركي جيداً وبدأ يديرها ويسدّدها في المرمى الذي يستهدفه.
بكلّ تأكيد لن تفلح تركيا بحزامها الأمني الجديد الذي منه تريد وحلفاؤها تحقيق أهدافها البعيدة، وفرض شروطها عند أيّ تسوية مع الدولة السورية، وذلك من خلال إطالة عمر الأزمة. فكلّ ما تستطيع تركيا فعله هو استمرارها في لعبة القتل والدمار، وغسل أيديها أكثر فأكثر بدماء السوريين الأبرياء.
وإذا كانت تركيا تظنّ أنها بضربها لداعش – بالشكل المسرحي – وإبعاد الأكراد عن جبهتها وحدودها، وإنشاء منطقة عازلة على حدودها، يحقق لها أمنها القومي واستقرارها، فهذا حساب خاطئ مثل كلّ الحسابات الخاطئة التي وقعت فيها تركيا منذ خمس سنوات ونصف السنة وحتى اليوم، وهي تتعاطى مع الشأن السوري. ولن تسلم تركيا من ردود الفعل على أفعالها وسياساتها المدمّرة. فإذا كانت لها أذرع طويلة داخل سورية، فللغير أيضاً أذرعه… وما يحدث من اهتزازات أمنية في الداخل التركي إلا الدليل على ممارسات تركيا الخاطئة… أمام تركيا فرصة طالما تدّعي أنها تريد القضاء على الإرهاب. فالقضاء عليه يتمّ عبر البوابة السورية، وبالتنسيق الفعلي معها، وبمراجعة حساباتها من جديد، وإعادة التواصل مع الدولة السورية ورئيسها والكفّ نهائياً عن جعل تركيا بوابة العبور للإرهاب والإرهابيين، وللسلاح والمرتزقة وكلّ القتلة الوافدين من أنحاء العالم جعلوا من تركيا قاعدة وجعلت تركيا من نفسها مقراً وممراً لهؤلاء.
إنّ فتح صفحة جديدة، من مهمة القيادة التركية، علّها تخفّف من الإحباط والكراهية والسخط الذي تحمله النفوس العربية الحرة وغير العربية حيال الدور السياسي التركي القبيح والشرس على مدار سنوات بحق شعوب سورية والعراق ومصر وغيرها…
فبعد الغزو العثماني الأول للسلطان سليم الأول ما الذي ننتظره اليوم من الغزو الثاني للسلطان الأردوغاني؟! علّ تركيا بعد خمسة قرون تتّعظ وتتعلّم الدرس جيداً وتأخذ العبرة كي تنسينا الحقبة العثمانية المليئة بأبشع السياسات التي مارستها بحق شعوب عالمنا العربي، والتي لم تترك وللأسف إلا كلّ الذكريات السيئة المرّة التي لم تهضمها حتى الآن معدتنا العربية.