في وقت كانت فيه المعلومات عن قرب إعلان إتفاق أميركي روسي، حول الأوضاع في سوريا، تسيطر على المشهد الإقليمي العام، كانت العمليات العسكرية على عدة محاور تتسارع بشكل لافت، حيث نجحت أنقرة، بالتعاون مع فصائل ما يسمّى "الجيش السوري الحر" التابعة لها، بطرد عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي، من الشريط الممتد من مدينة جرابلس إلى مدينة أعزاز، بعد يوم واحد من بدء المرحلة الثانية من عملية "درع الفرات"، بالتزامن مع إعلان الجيش السوري، بالتعاون مع القوى الحليفة له، عن إستعادة السيطرة على الكليات العسكرية الواقعة في جنوب مدينة حلب، وبالتالي إعادة إطباق الحصار على الأحياء الشرقية التي تسيطر عليها قوى المعارضة المسلحة.
ما تقدم يعيد إلى الأذهان التساؤلات الكثيرة حول غض النظر الذي رافق التدخل التركي في الشمال السوري، تحديداً عند الدخول إلى جرابلس، من جانب كل من روسيا وإيران وسوريا، خصوصاً أنه حصل في وقت كانت فيه العلاقات بين أنقرة وطهران وموسكو تشهد تقارباً غير مسبوق، بعد أن كان تحليق الطيران التركي في الأجواء السورية من الخطوط الحمراء، لا سيما بعد إسقاط دفاعات أنقرة الجوية المقاتلة الروسية، وهو ما فُسر بصفقة ما قد تكون أبرمت، في ظل حديث رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم المتكرر عن رغبة بلاده في إعادة العلاقات مع دمشق إلى سابق عهدها، في ظل التلاقي على رفض نشوء كيان كردي يمتد على طول الحدود بين البلدين.
في ذلك الوقت، كان البعض يتحدث عن نجاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سياسة إبتزاز القوى الكبرى، أي روسيا والولايات المتحدة معاً، بسبب حاجة كل منهما إلى دور بلاده في الأزمة السورية، وهو ما دفع بواشنطن إلى الضغط على حلفائها، أي قوات "حماية الشعب الكردي"، للإنسحاب من منطقة غرب الفرات، من دون أن ينجح ذلك في إنهاء الأزمة بين الجانبين، لكن على ما يبدو الأمور أبعد من هذا الواقع، فما حصل، يوم أمس، من المستبعد أن يكون مجرد "صدفة" غير متفق عليها مسبقاً بين بعض القوى الأساسية الفاعلة في الحرب السورية.
من هذا المنطلق، ينبغي العودة إلى الإتهامات التي كانت فصائل المعارضة السورية المسلحة تتقاذفها، بالتزامن مع الإعلان عن عودة الحصار إلى مدينة حلب، لناحية إخلاء البعض منها هذه الجبهة للذهاب نحو جرابلس، تنفيذاَ لرغبة الحكومة التركية، ما يعد مؤشراً لخلافات بين هذه الفصائل حول الأولويات، بالإضافة إلى رضوخ القسم الأكبر لأوامر القوى الخارجية الداعمة لها، لكن الأهم هو إعادة تحديد أنقرة أهدافها الحالية بطرد عناصر "داعش" من المناطق الواقعة على حدودها من سوريا، بالتوازي مع السعي لمنع الأكراد من ربط المقاطعات الثلاثة التي يسيطرون عليها، لأن هذا يعني أن مشروع الفيدرالية الذي تم الإعلان عنه قبل أشهر أصبح أمراً واقعاً.
في حصيلة المشهد الميداني الطويل، يوم أمس، نجحت أنقرة بتحقيق الهدف الأساسي الذي كانت تسعى إليه منذ فترة طويلة، لكن السؤال هو عما إذا كانت سوف تستكمل معاركها نحو مناطق جديدة، بالتحديد نحو منبج والباب، ما قد يساهم في توتير الأجواء أكثر مع الأكراد، الذين يسيطرون على المدينة الأولى والراغبين بوصل الجزيرة وعين عرب مع عفرين عن طريق المدينة الثانية، مع العلم أن الشريط الحدودي الذي تمت السيطرة عليه كان موضع إتفاقٍ مسبق مع واشنطن منذ أشهر طويلة، تحت عنوان "المنطقة الآمنة".
في المقابل، نجح المحور المقابل، أي موسكو وطهران ودمشق، في إغلاق الثغرة التي كانت الفصائل المعارضة قد فتحتها، في المعارك الأخيرة، نحو الأحياء الشرقية في حلب، التي تكتسب أهمية خاصة بالنسبة إلى القيادة السورية، في وقت كانت فيه المعلومات المؤكدة تتحدث عن تحضيره لمعركة كبرى بهدف إستعادة السيطرة على كامل المدينة، كان من المفترض أن تنطلق في وقت قريب، فهل تؤدي إستعادة السيطرة على الكليات العسكرية إلى تخفيف الضغط عن هذه الجبهة، أم تكون مقدمة نحو معارك أعنف قد تندلع بأي لحظة؟
في المحصلة، التطورات العسكرية الأخيرة سيكون لها تداعيات كبيرة على الواقع السياسي، ستكشفها الأيام القليلة المقبلة بالرغم من الغموض الذي يسيطر على المشهد العام، والذي تجلى بشكل واضح من خلال الإعلان عن التوصل إلى إتفاق روسي أميركي بشكل رسمي، ليعاد الحديث عنه بعد وقت قصير.