من تابع التصاريح والبيانات العلنيّة التي صدرت بعد "جلسة الحوار" الإثنين، أو تلك التي تلت كلاً من إجتماعي "تكتّل التغيير والإصلاح" و"كتلة المُستقبل" الثلاثاء، أدرك أنّ المواقف المُتباعدة على الصعيد الداخلي لا تزال هي نفسها. وهذا التباعد لا يقتصر على المُستوى الداخلي، حيث أنّ التوتّر الإقليمي وتحديدًا الإيراني-السعودي على حاله بل إلى تصاعد منهجي، والفشل الدَولي، وخاصة بين واشنطن وموسكو، في التوصّل إلى إتفاق يُنهي النزاع في سوريا مُستمرّ. وبعيدًا عمّا يُقال في الإعلام، إنّ أجواء الإجتماعات السياسيّة على الساحة المحلّية لا تُبشّر بالخير، حيث أنّ كل المعلومات المُسرّبة تتوقّع إنزلاق الأمور داخليًا نحو التصعيد التدريجي، في ظلّ تضارب في الآراء بين من يعتبر أنّ التدهور السياسي المُرتقب سيقود إلى "التسوية المنشودة"، ومن يعتبر أنّ التدهور السياسي سيقود إلى "فوضى شاملة"، فمن هو على حقّ؟
بالنسبة إلى "التيّار الوطني الحُرّ"، القرار بالتصعيد التدريجي الذي كنا قد أشرنا إليه في مقالات سابقة يسير وفق الخطّة المرسومة، مُستفيدًا من دافع إستمرار سياسة الإستخفاف بالقوى السياسيّة المسيحيّة، وهي سياسة إعتاد عليها أكثر من طرف داخلي بحكم الأمر الواقع، منذ إسقاط حكومة العماد ميشال عون الإنتقاليّة في 13 تشرين الأوّل 1990 بقوّة إتفاق أميركي-سعودي-سوري، وبتنفيذ من قبل جيش الإحتلال السوري مُستفيدًا من الإنقسام اللبناني الداخلي في حينه. وقرّر "التيّار" التركيز في المرحلة الراهنة على ورقة "الميثاقيّة"، لأنّها بنظره مفتاح الحلول المنشودة. فإحترام هذه "الميثاقيّة" يعني بحسب "التيّار"، عدم جواز تمرير أيّ قرار لا يُوافق عليه "العَونيّون"، لا من قبل السلطة التنفيذية ولا من قبل السلطة التشريعيّة، طالما أنّ "التيار الوطني الحُرّ" يمثّل أكبر تكتّل مسيحي نيابي ويتمتّع بأوسع قاعدة شعبيّة، الأمر الذي تعزّز أخيرًا عبر "إعلان النوايا" مع حزب "القوات اللبنانيّة". وإحترام "الميثاقيّة" بحسب "التيار" أيضًا، سيقود إلزاميًا إلى إنتخاب العماد عون رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة في نهاية المطاف، وسيقود أيضًا إلى تبنّي الجميع لقانون جديد للإنتخابات النيابيّة يُعطي كل فريق حجمه السياسي والشعبي الطبيعي.
لكنّ لخصوم "التيّار" رأي آخر، بل آراء أخرى، حيث يرون في تفسير "التيّار" للميثاقيّة مُغالطات بالجملة، تبدأ بالمُبالغة في حجم تمثيله الشعبي مُستندين في ذلك إلى ما أظهرته بعض نتائج الإنتخابات البلدية الأخيرة، وتمرّ بوجود قوى مسيحيّة أخرى فاعلة تُؤمّن "الميثاقيّة" إن في الحكومة أو على طاولة الحوار أو في مجلس النوّاب، ولا تنتهي عند ضرورة الإلتزام بالدستور والقوانين المرعيّة لإنتخاب رئيس للجمهوريّة ولتكليف إحدى الشخصيّات لتشكيل حكومة جديدة. والأكيد أنّ الإعتراض على أهداف "التيّار الوطني الحُر" باستعادة الحُضور المسيحي الفاعل في السلطة، والموقع الذي يُحسب له حساب، يتجاوز "تيّار المُستقبل" الخائف على فقدانه العديد من نوّاب كتلته والخائف على سُلطته التنفيذية في حال وُصول رئيس قوي يستند إلى دعم نيابي وشعبي كبير. وفي هذا السياق، إنّ أركان في قوى "8 آذار" السابقة، يُعارضون وُصول "الجنرال" إلى سُدّة الرئاسة، مع وُجود العديد من الأحزاب السياسيّة والكتل النيابية التي تميل إلى مرشّحين آخرين، وفي طليعتهم النائب سليمان فرنجية والنائب السابق جان عبيد. وما يطال الموضوع الرئاسي ينسحب أيضًا على قانون الإنتخابات، حيث أنّ أحدًا من القوى السياسيّة الإسلاميّة، إضافة إلى قوى مسيحيّة مناطقيّة، غير مُتحمّس لإقرار قانون إنتخابي جديد يمنح حزبي "التيار" و"القوات" أغلبيّة نيابيّة ساحقة. ولا تُساعد الأجواء الإقليميّة المُتشنّجة جدًا، والأجواء الدَوليّة التي تعيش مرحلة مفتوحة من "كباش المصالح"-إذا جاز التعبير، في تسهيل التوصّل إلى تسوية عادلة للملفّ اللبناني ككل، حيث ما يهمّها بالدرجة الأولى ليس حق هذه الطائفة أو تلك، وليس الحفاظ على ميثاقية مفقودة أو ما شابه، وإنما الحفاظ على الإستقرار السياسي والأمني في لبنان. وليس بسرّ أنّ الكثير من القوى الإقليميّة والدَوليّة، مدعومة بقوى داخليّة عدّة، تنتظر الفُرصة المناسبة لطرح إسم قائد الجيش العماد جان قهوجي لمنصب رئاسة الجمهوريّة.
وكل ما سبق، يدلّ بوضوح على أنّ التخبّط السياسي في لبنان سيستمرّ في الأسابيع القليلة المُقبلة، وإنّ إتجاه الأمور هو نحو مزيد من التصعيد والتعقيد. وإذا كان من المُحتمل تمرير جلسة الخميس الوزاريّة بالتي هي أحسن، كما يُقال، علمًا أنّ الأسبوع المُقبل سيحمل اجازة العيد وبالتالي غياب النشاط السياسي، فإنّ نهاية شهر أيلول لن تمرّ على خير، لأنّ الإستحقاقات الداهمة وفي طليعتها مسألة التمديد لقائد الجيش، غير قابلة للتأجيل لاعتبارات قانونيّة وستُمرّر عبر مرسوم من قبل الوزير المعني، وهي ستُشكّل الشرارة لتصعيد "التيّار الوطني الحُرّ" الكبير. واللافت أنّ الكثير من القُوى السياسيّة تُراهن على فشل أيّ تحرّك شعبي للتيّار، بعد أن لاحظوا عدم حماسة أيّ قوى حليفة له، أكان من الحلفاء الُقدامى أو الجُدد، لمؤازرته في أي حركة تصعيديّة تقلب الطاولة على الجميع.
وفي الخلاصة، إنّ فرص "التسوية المنشودة" التي يُراهن عليها "التيار" من مُنطلق "إذا ما كبرت... ما بتصغر"، لا تبدو كبيرة في المرحلة الراهنة، وبالتالي إنّ إحتمال "الفوضى الشاملة" يتقدّم وبسرعة، مع ما سيعنيه هذا الأمر من ربط للملفّ اللبناني بملفّات المنطقة وبتسوياتها التي قد يطول إنتظارها كثيرًا.