تلاشت نظرية إسقاط دمشق من الجنوب السوري، فتحوّلت فصائل الجنوب إلى البطالة، قبل أن توجّهها غرفة «الموك» لقتال «داعش» في حوض اليرموك. وبينما يستغل الجيش السوري الفرص للسيطرة على مناطق استراتيجية، تستمر «حروب القضم» في درعا والقنيطرة، ويزداد التركيز الأردني على قتال «داعش»، مع تحوّل السلفية الجهادية إلى خطر أردني داخلي
عادت ساحة الجنوب السوري لتكون ملعباً لـ«حروب صغيرة»، تستعر وتخفت بين حين وآخر. فمنذ الانخراط العسكري الروسي المباشر في الحرب قبل نحو عام تقريباً، تقيّد عمل «غرفة العمليات الأردنية» المعروفة باسم «الموك» بالتفاهم الروسي ــ الأردني المحدود، وتجنّبت التصعيد العسكري ضد الجيش السوري. وجاء التفاهم ليتمّم انهيار نظرية «إسقاط دمشق من الجنوب»، مع التحوّل الجذري في ميدان الغوطة لمصلحة الجيش السوري، وآخر فصوله استعادته مدينة داريا المرتبطة بميدان الجنوب، وسيطرته المتماسكة على مثلّث «درعا ــ القنيطرة ــ ريف دمشق» منذ شباط 2015.
بعد سنوات من التآمر الأردني المباشر ضد الدولة السورية، حفل العام الماضي بسلسلة عمليات إرهابية داخل «المملكة الهاشمية»، من قبل جماعات تحمل الفكر السلفي الجهادي، التي سبق للاستخبارات الأردنية والأميركية وغيرهما أن غذّتها وتغذيها في الجنوب السوري، مثل «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة»، فضلاً عن الهجمات التي شنّها تنظيم «داعش»، وآخرها الهجوم على نقطة لحرس الحدود قرب مخيّم الرقبان على الحدود السورية ــ الأردنية قبل نحو شهرين، فاتخذ الأردن قراراً بإقفال الحدود مع سوريا بشكل كامل وضرب أي حركة على الحدود تتم من دون تنسيق (كما حصل قبل أيام مع مجموعة من المهرّبين قرب حوض اليرموك)، وتقنين المساعدات للجماعات المسلّحة إلى حدّها الأدنى مع استمرار إدخال الذخائر والأسلحة عبر معبر تل شهاب الحدودي، وتقنين دخول القمح عن طريق الأردن إلى المدنيين، ومنع دخول الجرحى إلى داخل الأردن. وبات الاهتمام الأردني مصبوباً على ردّ خطر «داعش» من الداخل والخارج، والتركيز على دعم ما يسمّى «جيش سوريا الجديدة» المخصص لقتال التنظيم في المنطقة الممتدة من مثلّث الحدود الأردنية ــ السورية ــ العراقية على طول الحدود السورية ــ العراقية، مروراً بالتنف والبوكمال، فتُركت الجماعات المسلّحة، «المعتدلة» منها بحسب التصنيف الأميركي وتلك المحسوبة على «القاعدة»، لتقتتل في ما بينها، قبل فرض توحيدها. وبحسب مصادر أمنية وعسكرية سورية، طلبت غرفة «الموك» من الفصائل التابعة لها إيجاد أطر أكبر للتوحّد في ما بينها، والتحاق عددٍ من الضباط المنشقّين عن الجيش من المحسوبين على الأردن بهذه التشكيلات الجديدة، بهدف قتال «داعش».
يخطّط الجيش
للسيطرة على بلدة بصر الحرير في القطاع الشرقي لدرعا
وباتت السيطرة شبه الكاملة على الريف الشرقي من نصيب «فرقة شباب السنّة»، التي يُعدّ «لواء شباب السنّة» عمادها الأساسي، فيما تبسط فصائل «الجبهة الجنوبية» و«جيش اليرموك» و«النصرة» السيطرة على الريف الغربي والشمالي وطوق مدينة درعا. وبقي الخطّ الحربي، الممتد من معبر نصيب حتى ذيبين في السويداء، بالتوازي مع خط الحدود، تحت سيطرة «لواء العشائر»، المدعوم من الأردن بالكامل، بهدف حماية الحدود من الشمال. غير أن دعم الفصائل بات مشروطاً بتسخير جهود هذه الجماعات باتجاه هدفٍ واحد: قتال «جيش خالد بن الوليد»، الذي قام على تحالف «لواء شهداء اليرموك» المرتبط بـ«داعش» و«حركة المثنّى»، التي التصقت بـ«النصرة» طوال السنوات الماضية في درعا، قبل أن تقرّر «الموك» في بداية الربيع الماضي ضربها وإخراجها من كافة المناطق عبر ما يسمّى «دار العدل»، باتجاه منطقة حوض اليرموك، في مثلّث الحدود السورية الأردنية مع الجولان المحتل.
الجيش يقتنص الفرص
لم يوفر الجيش فرصة للتقدّم نحو نقاط استراتيجية في الجنوب إلّا استغلّها، بهدف تأمين حماية إضافية لمواقعه وحرمان المجموعات المسلحة من السيطرة على العقد الجغرافية؛ فالسيطرة على مدينة الشيخ مسكين مع بداية العام قطعت خط إمداد رئيسياً لـ«النصرة» وأمّنت حماية مضاعفة لأوتوستراد دمشق ــ درعا، ثم جاءت السيطرة على بلدة عتمان الملاصقة لشمال مدينة درعا في شباط الماضي، والتي أمّنت خاصرة المدينة الشمالية، وما تلاها من استعادة أجزاء واسعة من حي المنشية ودرعا البلد في مدينة درعا والاقتراب من منطقة الجمرك القديم جنوب المدينة. وحيث لم يخض الجيش عملية عسكرية خاطفة، نجحت مساعي المصالحات في تحييد عدد من قرى الجيدور (شمال غرب درعا)، لا سيّما داعل وإبطع، فرُفع العلم السوري في الأخيرة، وباتت تحصل على المساعدات من الدولة السورية وسلّم جزء من أبنائها أسلحتهم للجيش. غير أن هجوماً صاروخياً قام به المسلّحون على الشيخ مسكين الشهر الماضي، من منطقة الـ«جعيلة» بين طفس والشيخ مسكين، دفع الجيش إلى التحرك.
قبل أيام، تحرّك الجيش في عملية خاطفة، مستعيداً ما يسمّى «الكتيبة المهجورة» قرب إبطع. وبحسب مصادر عسكرية سورية، فإن «السيطرة على الكتيبة المهجورة تقطع طريق المسلحين بين إبطع وداعل، بغض النظر عن المصالحة التي تعرّضت للانتكاسة»، و«تؤمّن حماية إضافية لبلدة خربة غزالة، إضافة إلى قطع الطريق الغربي داعل ــ طفس بالنار». وتقول المصادر لـ«الأخبار» إن «الجيش سيستكمل وصل الجنوب واستعادة السيطرة على النقاط الاستراتيجية»، كاشفة عن نيّة «للهجوم على بلدة بصر الحرير في القطاع الشرقي لدرعا، بهدف وصل السويداء بمدينة إزرع».
محاولات «يائسة» للهجوم على الجيش
على الرغم من قرارات «الموك» بالحرب ضد «داعش»، حاول المسلّحون أكثر من مرّة استهداف مواقع للجيش من الشيخ مسكين، قبل شهر ونصف، إلى الهجمات المتكرّرة على خربة غزالة، وصولاً إلى الهجوم الأخير قبل نحو شهر على منطقة تلّ قرين في مثلّث الموت. وفي كل المرّات، كان ردّ الجيش حاسماً، واضطرت الفصائل إلى التراجع عن الهجمات بفعل الخسائر الكبيرة في الأرواح والعتاد. ورصدت الاستخبارات السورية أكثر من خطّة وضعها المسلّحون في درعا والقنيطرة، للسيطرة على الشيخ مسكين وخربة غزالة، ومدينتي البعث وخان أرنبة في القنيطرة، اللتين تشكّلان عائقاً أمام امتداد سيطرة إسرائيل والفصائل المتعاملة معها، من الجولان المحتلّ إلى ريف درعا الغربي وريف دمشق.
وبحسب مصادر أمنية معنية بالجبهة الجنوبية، فإن «معركة مدينة البعث يجري الإعداد لها منذ رمضان الماضي، لكنّ خلافات أحرار الشام والنصرة حول تقاسم الغنائم والسيطرة على المدينة بعد إخراج الجيش منها، أخّر انطلاقها». وأنهى المسلّحون، في الأيام الماضية، إنجاز طريق خلفية مدعّمة بالسواتر الترابية بالتوازي مع حدود الجولان المحتلّ، تصل مدينة القنيطرة ببلدة جباثا الخشب، للالتفاف على مرابض مدفعية الجيش ونيرانه الصاروخية والاحتماء بالشريط الشائك مع الجولان.
وفي وقت يردّد فيه قادة المسلحين أن الطريق الجديد سيساعد في الهجوم على خان أرنبة والبعث، يحاول الجيش توسيع نقاط سيطرته باتجاه بلدة الحميدية واستهداف أيّ تحركات للمسلحين بشكل استباقي.
أنهى المسلحون إنجاز طريق خلفية على حدود الجولان المحتل
«المنطقة الآمنة» والحرب على «داعش»
يسيطر «جيش خالد» المبايع لـ«داعش» على قرى الكويا، الشجرة، عابدين، بيت آرة، ويتّخذ من بلدة جملة مقرّاً له في حوض اليرموك. وتخضع مناطقه لحصار شبه كامل. وبحسب المعلومات، فإن الجيش الأردني عزّز مواقعه ونصب بطاريات مدفعية وصواريخ ومنظومات مراقبة حرارية وكاميرات في مقابل حوض اليرموك. وبعد أن كانت إسرائيل تقدّم المساعدات لـ«لواء شهداء اليرموك» وتسعف جرحاه، على ما يؤكّد أكثر من مصدر سوري وفي المقاومة اللبنانية، توقّف الدعم الإسرائيلي منذ وضعت واشنطن اللواء على لوائح التنظيمات الإرهابية في حزيران الماضي، وبدأ شبه حصار إسرائيلي من الغرب مع تعزيز مواقع جيش العدو وتسيير الدوريات بشكل دائم. أما من الشمال والشرق، فتفرض فصائل «الجبهة الجنوبية» و«النصرة» حصارها على التنظيم، بعد مرحلة من العمليات العسكرية اليومية ضده.
وعلى الرغم من إشارة وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر، في نهاية تمّوز الماضي، إلى أن «التحالف سيبحث فرص مهاجمة داعش في الجنوب»، فإن من غير الواضح حتى الآن ما قد يقدم عليه التحالف، أو الأردن أو إسرائيل، لإخراج التنظيم من حوض اليرموك. وجرى الحديث في المرحلة الماضية عن إمكانية هجوم واسع على «داعش» في اليرموك بمساعدة قوات خاصة أردنية، غير أن أكثر من مصدر نفى لـ«الأخبار» نيّة الأردن «القيام بهذه المغامرة في الوقت الحاضر»، مع التأكيد أن «الاهتمام الأردني ينصبّ على الحدود السورية العراقية ودعم قوات سوريا الجديدة وتدريبها»، والحفاظ على «خط المنطقة شبه الآمنة على الحدود مع سوريا، بعمق 7 كيلومترات، والتي يسيطر عليها لواء العشائر»، و«تضييق الخناق على داعش في الحوض».
«حاجز رفح»
يعاني أهالي حوض اليرموك الأمرّين من إجراءات «جيش خالد بن الوليد» العقابية، التي تتعدى عملياً عمليات قطع الأيدي والأرجل والإعدامات والحرق التي تمارسها المحكمة الشرعية وشرطة الحسبة، إلى إجبار الأهالي على دفع الضرائب الباهظة ومصادرة أملاك موظفي الدولة السورية. ويعاني الأهالي من حواجز «جبهة النصرة» و«الجيش الحر» التي تطبق حصارها على حوض اليرموك. فمنذ أكثر من شهرين، يُمنع إدخال الحليب والسكر والطحين إلى قرى الحوض بحجّة حصار «داعش»، كذلك يُنصح الأهالي على حواجز «النصرة» بعدم العودة إلى قرى الحوض في حال الخروج منها. وبات الأهالي يطلقون على الحاجز الواقع بين عين ذكر وتسيل لقب «حاجز رفح» (في فلسطين المحتلّة)، والمسؤول عنه المدعو أبو نضال الزين، لكثرة المعاناة والاضطهاد الذي يمارس بحقّهم.