حَفِل الأسبوع الماضي بالمتناقضات السياسية اللبنانية التي اتسمت بالإخراج المسرحي الباهت؛ كان الرئيس سعد الحريري يمضي إجازة خاصة في إيطاليا مع أمين عام "تيار المستقبل" أحمد الحريري، ومن هناك هدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور بحق النظام السوري، على خلفية صدور القرار الاتهامي في جريمة تفجير مسجدي "التقوى" و"السلام" في طرابلس، فيما زايد عليه خصمه الطرابلسي اللدود اللواء ريفي وطالب بوجوب طرد السفير السوري من لبنان.
أما النائب وليد جنبلاط فعاد من إجازة خاصة في فرنسا برفقة النائب والوزير وائل أبو فاعور، وفور وصوله شنّ حملة "عنفوان لبناني" على شركة طيران "أجنحة لبنان"، وطالب بمنع هبوط طائراتها في مطار بيروت، على خلفية هبوط طائرة مستأجَرة أصلاً من شركة تركية في مطار "إسرائيلي"، دون أن يتسنى لجنبلاط الوقت لمعرفة الحقيقة أن هذه الطائرة أعيدت للشركة التركية لإجراء صيانة دورية لها، وادّعت "أجنحة لبنان" على الشركة التركية لدى النيابة العامة لاستخدامها الطائرة في رحلة إلى فلسطين المحتلة قبل إزالة الملصقات اللبنانية عنها، وبهاتين الجزئيتين بدا الحريري وجنبلاط وكأنهما يتغافلان عن الملفات الكبرى ويتلهّيان بالقشور.
في نفس الأسبوع، كان الرئيس نبيه بري يستعرض حشود ربع مليونية، بمناسبة ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، وكان قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع يحشد لقداس "شهداء القوات"، في وقت كان مسيحيو التيار الوطني الحر و"الكتائب" و"الطاشناق" يتقاتلون بين أنفسهم ومع الآخرين على النفايات التي جُمعت في جبل لبنان.
وفيما المعضلة الدستورية اللبنانية حالياً محكومة بمرحلة "البطة العرجاء" الدولية والإقليمية خلال ما تبقّى لأوباما في البيت الأبيض، ولهولاند في الإليزيه، مع "عرجة" بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، إلى أوروبا المنهكة باللاجئين والإرهاب، إلى السعودية التي تعيش مرحلة انتقالية غير معلَنة على خلفية الوضع الصحي للملك سلمان، إلى سورية التي تنقلب فيها الأوضاع ببطء لمصلحة الرئيس بشار الأسد، مع ما يترتب من أعباء ترسيخ سلطة الدولة وإعادة الإعمار، يجد لبنان نفسه ملزماً أن يتحمّل ذاتياً مسؤولية دخول مرحلة الاستحقاقات الداهمة التي تفرضها المهلة الدستورية للانتخابات النيابية التي تبدأ في تشرين الثاني المقبل، وما يسبقها وما يليها من استحقاقات، وسط تصريحات روسية يتيمة لافتة بـ"وجوب انتخاب رئيس للجمهورية لإدارة هذه العملية"، ولو أن استيلاد الرئيس سيتم بعملية قيصرية.
الواقعية تدفع إلى قول إنه لا أحد "مرتاح على وضعه" سوى الرئيس بري، الذي أعلنه السيد نصرالله رئيساً لأي مجلس نيابي مقبل، والقوة الجماهيرية والسياسية الشيعية الموحَّدة قادرة على تحقيق هذه الإرادة، أما أن يعلن سمير جعجع أن "القوات" تسعى ليكون العماد عون رئيساً للجمهورية و"الشيخ" سعد الحريري رئيساً للحكومة، فهو الإخراج الذي لا توافق عليه الآن ولا في القريب، لأن "الفيتو" على عودة الحريري أكبر بكثير من "الفيتو" على وصول عون.
الرئيس سعد الحريري خلال "غيبته" أوعز بصرف 350 موظفاً من مؤسسات "المستقبل"، وختم كتاب الصرف بعبارة تعد المصروفين بدفع مستحقاتهم المتأخرة فور توفُّر الأموال، وتمنيات في ختام كتاب الصرف "بتحسن الأوضاع مستقبلاً لمعاودة الانطلاق معاً من جديد"، والرئيس الحريري يدرك أن السعودية التي تركته يتخبط على أراضيها في مواجهة ديون مالية مترتبة لخمسين ألف موظف من "سعودي أوجيه" المفلسة، لن تنقذه في لبنان مالياً، لأنه لم يعد خيارها السياسي السُّني الأول في لبنان، بل بات الأخير، وبورصة الوزير نهاد المشنوق هي التي ترتفع على أسوار السراي، ومن اليوم وحتى المؤتمر العام لـ"تيار المستقبل" في تشرين أول المقبل فإن رئيس "التيار" ومدبّر الأمور وسيد "بيت الوسط" الفعلي هو الرئيس فؤاد السنيورة، الذي يحاول لملمة بقايا العزّ الذي كان، لكن دون جدوى، لأن اللهجة التصعيدية لـ"السنيورة وشركاه" في وجه المقاومة وحزب الله أقفلت كافة طرقات السراي أمام الحريري أو من يتبعه من صقور وأبواق التطرّف.
والوضع داخل التيار الوطني الحر ليس سيئاً جداً، لكنه ليس بأفضل حالاته، نتيجة التجاذبات الحزبية التي أثّرت سلباً على المستوى الشعبي، وبدا قائد "القوات" في قداس الشهداء وكأنه ينطلق من قوة مؤسساتية تحضّر لإطلاق "حكومة إلكترونية"، ويحمل لواء التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد، بعد أن فشل "التيار" في إحداث خرق، سواء عبر المشاركة بالحكومة، أو بطاولة الحوار التي لا طائل منها، خصوصاً بعد الذي حصل في آخر جلسة بين باسيل وفرنجية.
النائب إبراهيم كنعان؛ صاحب الفضل في إصدار "الإبراء المستحيل"، بدا في حضرة جعجع خلال القداس وكأنه يتلقّن دروساً منه في كيفية التعاطي مع دولة فاسدة، وبدا أيضاً محرجاً سياسيا في المهرجان، ولم يكن مسروراً بهجوم جعجع على حزب الله ودوره في سورية، وكانت انفعالاته صادقة خلال الخطاب، لأن التيار الوطني الحر يجد نفسه بعد مصالحة معراب وكأنه يضع "رجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة"، وهذه البراغماتية لا توصل إلى بعبدا.
ومع استبعاد النائب فرنجية عن السباق الرئاسي احتراماً لحيثية العماد عون، ومع حتمية التمديد للعماد قهوجي في قيادة الجيش، ولرياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان، "لم يبق في الميدان سوى حديدان"، وأسهم الوزير جان عبيد ترتفع بسرعة قياسية، كلما اقتربت الاستحقاقات التي لا مفرّ منها بضرورة وجود رئيس، ولو كان لنصف ولاية أو لسنتين بهدف تمرير المرحلة، وضياع الفرصة من البداية أمام الجنرال عون هي في أنه ضمن المعادلة التي طرحها سمير جعجع في خطابه الأخير؛ عون في بعبدا والحريري في السراي، ومفتاح الحلحلة ليس في معراب بل في الضاحية، والحريري لن يحصل على المفتاح.