تأسست مجموعة العشرين كمنتدى اقتصادي عالمي موازٍ لقمة الثماني "G8"، بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت النمور الآسيوية عام 1997، وأدت إلى انهيار مالي واقتصادي في جميع أنحاء شرق آسيا. وقد بدأت تلك الأزمة في تايلاند، حين حصلت مضاربات على العملة أدت إلى فقدان قيمتها بطريقة دراماتيكية - ويشير البعض إلى دور للملياردير اليهودي الأميركي جورج سوروس في تلك الأزمة - ثم ما لبثت أن امتدت موجة الإفلاسات إلى الدول المجاورة وتأثُّر الاقتصاد العالمي بها على نحو كبير. وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، تحوّل هذا المنتدى الاقتصادي العالمي إلى قمة عالمية يحضرها رؤساء الدول العشرين لبحث السياسات المالية والاقتصادية، بالإضافة إلى التحديات الدولية الجديدة، كالإرهاب والتغيُّر المناخي وغيرها.
اللافت في ما تمّ بحثه هذه السنة في تلك القمة، أنه بالرغم من أهمية الاقتصاد على الصعيد الدولي، فإن عناوين الأزمات السياسية طغت على ما عداها من ملفات اقتصادية وتجارية وبيئية واجتماعية، فكانت المباحثات حول سوريا وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي، ومكافحة الإرهاب وأزمات اللاجئين هي العناوين الأساسية التي طغت على ما عداها من اتفاقيات التجارة الحرة وتقلبات السوق وغيرها.
ولعل الأزمة السورية كانت الأبرز في المباحثات، بسبب موجة التفاؤل التي سادت قبل قمة أوباما - بوتين، والتي كنا قد أشرنا إلى عدم جدّيتها على هذه الصفحات الأسبوع الماضي، لأسباب عدّة. والملاحظ أن طرفي الأزمة السورية حاولوا الالتفاف على قلقهم مما يحيكه الروس والأميركيون من خلال تسريبات للصفقة المنتظَرة، فسرّب النظام بنود تفاهم يبقي الأسد في الحكم ويعطيه كافة الصلاحيات السيادية، ويبقي للمعارضة بعض الوزارات التنفيذية، بينما ردّ المعارضون بتسريب نص "رسالة" مرسَلة من المبعوث الأميركي إلى سوريا مايكل راتني إلى المعارضة، يُعلمهم فيها بما يشبه استسلام ميداني للنظام وحلفائه، مقابل وعد أميركي بـ"التعاون على إضعاف النُّصرة".
حاولت التسريبات تلك ممارسة حرب نفسية على العدو، لكنها كانت لزوم ما لا يلزم، إذ إن خلط الأوراق الذي حصل بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا، كان قد عقّد الحل أكثر مما سهّله، وذلك كما يلي:
1- قبل الانقلاب التركي الفاشل، كانت الولايات المتحدة الأميركية تسيطر بشكل كبير على قرار مجموعة من الحلفاء الذين تتحالف معهم في مشروع شرق أوسطي، يهدفون إلى إسقاط النظام السوري من جملة أهداف عدّة يتوخّونها في المنطقة، لكن ما أن حصل الانقلاب، حتى أتيح لأردوغان المجاهرة العلنية برفض القرارات الأميركية، والسير بخيار التدخُّل العسكري ضد الأكراد في سورية، وهكذا يكون الانقلاب قد سمح لأردوغان - المستاء من سياسة الولايات المتحدة في سوريا منذ سنوات - بأن يجاهر بالتمرُّد على الأميركيين، بالرغم من أنه لن ينساق للانخراط في أي محور من المحاور، بل سيحاول أن يأخذ من الطرفين كل ما يستطيع أن يكسبه ليقوّي نفوذه.
2- سيدفع التمرُّد التركي على الولايات المتحدة بقطر إلى محاولة التمايُز عن الأتراك، وكسب دور وظيفي جديد في سوريا، من خلال محاولة خدمة الأهداف الأميركية من خلال بعض المجموعات المسلحة التي تموّلها وتدعمها في سورية، وهذا قد يدفع إلى صراع "إخواني" - "إخواني" بين المجموعات المسلَّحة في سورية.
3- سيكون "التأرجح" التركي دافعاً لخروج السعودية عن طورها، ومحاولة دفع المجموعات المسلحة التي تدين بالولاء لها إلى فتح جبهة جديدة، تحفظ للسعودية موطئ قدم، خشية أن ينجح الأتراك في استغلال نفوذهم وموقعهم الجيواستراتيجي لجني المكاسب من أي تفاهم أو حل سياسي مستقبلي، بينما يبقى السعوديون على قارعة الانتظار والمياه تجري من تحتهم.
4- لفترة ما، شعر الأكراد أنهم باتوا لبّ الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، خصوصاً بعدما ظهر أن الأكراد هم العمود الفقري للاستراتيجية الأميركية لمقاتلة "داعش" في سوريا، وسرت بعض المعلومات الصحفية التي تقول إن الأميركيين فرضوا على أردوغان "التعايش" مع "كونتون" كردي في الشمال السوري، لكن ما أن شعر أردوغان بالقدرة على تحدّي الأميركيين، حتى كان الأكراد الضحية الأولى للتمرُّد الأردوغاني على حلفائه، فكان التدخُّل العسكري التركي في الشمال السوري، الذي أعاد لأردوغان أحلام "المنطقة الآمنة" التي قد تكلّفه الكثير إن لم يستطع قراءة التحوّلات في المنطقة جيداً.
في النتيجة، لا شيء يشي بقرب حل للأزمة السورية خلال الفترة المتبقية من عهد أوباما، فلا أوباما مستعجل لإعطاء مكاسب للروس في الشرق الأوسط قبل رحيله، ولا قدرة له على إرضاء جميع حلفائه، أو على الأقل إجبارهم على القبول بحل في حال توافق عليه مع الروس، فالسعوديون ينتظرون هيلاري كلينتون، والأكراد يخشون صفقة على حسابهم، والأتراك يريدون التمايُز وقطف المكاسب من الجهتين، وحتى الروس الطامحون إلى دور عالمي من خلال البوابة السورية لا يستطيعون تخطّي الإيرانيين والسوريين.. لذا، يبقى الخيار الأميركي بالاستنزاف هو الثابت الوحيد في كل ما يجري من تحوّلات على الأرض السورية.