ينتظر ابناء صيدا بفارغ الصبر الانتهاء من انشاء "متحف آثار ​مدينة صيدا​" في منطقة الشاكرية وتحديدا عند موقع "الفرير" الأثري، في أرض تابعة للمديرية العامة للآثار وتنفذه الدولة اللبنانية عبر وزارة الثقافة بهبة قيمتها أربعة ملايين دولار، مقدمة من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في اطار المنحة التي خصصتها دولة الكويت لمشاريع تنموية لاعادة اعمار لبنان بعد الحرب اللبنانيّة والبالغ مقدارها 300 مليون دولار أميركي، إضافة إلى هبة بقيمة 850 ألف دولار، مقدمة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.

منذ عقود طويلة و"المتحف الوطني"، حلم راود الصيداويين، وقد تحول الى مطلب ضروري لحماية اثارهم من السرقة والضياع وهي المبعثرة بين متاحف العالم والمتحف الوطني في بيروت، وبين ساحات المواقع ومكاتب الاثار وبين بيوت جاهزة او في المخازن والمستودعات، فهو سيحتضن حضارات خمسة آلاف عام، ليحفظ إرث المدينة وتاريخها ويحافظ على اثارها القديمة والمكتشفة حديثا.

وقد وضع حجر الاساس المتحف، في عهد رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة في حزيران عام 2009 ويجري انشاؤه على مساحة تقديرية تبلغ 1600 مترا مربعا في المنطقة الشمالية من موقع الفرير الاثري، على ان ينشأ سقف على الموقع الاثري بمساحة حوالي 2000 متر مكعب لحماية القطع الاثرية الموجودة داخله ولانشاء ممرات للزوار واستحداث منطقة مزروعة للترفيه، اضافة الى ربط بيئة المتحف بالحي القديم لغرض ابراز القيمة التاريخية للمنطقة وتوفير مساحة للعرض الداخلي للمتحف.

وتشرف وزارة الثقافة على اشغاله، فيما المديرية العامة للاثار على عملية التنقيب عن الآثار في ​موقع الفرير الأثري​، بالتعاون مع فريق المتحف البريطاني برئاسة الدكتور ​كلود ضومط​، وقد كشف التنقيب عن الكثير من الآثار الهامة وبالتالي، فان إنشاء مشروع ​متحف صيدا الأثري​ يهدف إلى إعطاء مدى سياحي أوسع للمدينة عبر عرضها ضمن محيطها الأثري والتاريخي.

الموقع والمكتشفات

جرى إختيار موقع المتحف بعناية، تماشيا مع اكتشافات موقع الفرير الاثري الذي يعيد تدوين تاريخ صيدون القديم عبر تسلسل المراحل التاريخية التي تبدأ من الحقبة البرونزية قبل 3000 عام قبل الميلاد وصولا الى العصر الفينيقي والروماني الفارسي وبعض الاسلامي، فيما تولت البعثة البريطانية الموفدة من المتحف البريطاني بالتعاون مع المديرية العامة للاثار هذه المهمة، ودلت المكتشفات، على ان موقع "الفرير" الاثري يعتبر الاهم ليس في لبنان وحسب وانما في المنطقة بعدما تأكد ان هناك تسلسلاً في الحقبات التاريخية والعثور على معبد وهياكل عظمية كاملة واكثر من مليون قطعة فخارية اثرية، عدد قليل منها سليم والباقي مكسورة ومبعثرة، اضافة الى 108 هياكل عظمية لاطفال ومحاربين كنعانيين، وبقايا حيوانات مميزة، فضلا عن اواني وصنانير وخناجر، فضلا عن سور صيدا القديم الذي يشكل حلقة الوصل مع التاريخ الحديث بدءًا من القلعتين البحرية والبرية والمتعبد "الصيداوي" او "الصيدوني" اي هيكل او مجسم لانسان كامل، منقوشا بالبلاستير، يظهر الوجه فيما اليدان مضمومتان الى الصدر احتراما وتعبيرا عن الطاعة والولاء"، وكان في الماضي يكتشف على الجرار آلهة وجهها نصف حيوان ونصف انسان، اضافة الى غرف ومستودعات القمح والشعير وسواهما ومئات الجرار الفخارية التي تدل على كثافة المبادلات التجارية من لبنان الى اليونان، اضافة الى جرار من جزيرة "رودوس" ومنها "جرة" عليها "قرن ثور" وداخلها هيكل عظمي وعقد من الذهب والعقيق وحلق مزدوج من البرونز، ما اتاح فهم الطقوس الجنائزيّة.

كل هذه المكتشفات ستكون تحت مظلة المتحف نفسه، اذ تؤكد المشرفة على البعثة البريطانية الدكتورة كلود ضومط سرحال، ان المتحف في موقعه، سيكون الاول من نوعه في الشرق الاوسط وان القطعة النادرة ستحتل مكانا محوريا فيه، وسيسمح للزوار بالنزول اليه للتمتع بمشاهدة الاطلال، وان يروا بأنفسهم كيف حفظت التنقيبات تحت المتحف وهذا الرحلة الرائعة عبر الزمن ستغطي نحو خمسة آلاف سنة من الاكتشافات تبدأ من نهاية الالفية الرابعة قبل الميلاد وتنتهي بصيدا القرون الوسطى والعهود الاسلامية.

وتعتبر ضومط ان المتحف مهم جدا لانه يضيء على ماهية مكتشفات صيدا والذي سيضم في جنباته نحو 1400 قطعة اثرية متفاوتة الحقبات التاريخية، فضلا عن كونه الاول خارج العاصمة بيروت، والاهم من كل ذلك انها المرة الاولى التي يعزز علاقة الزائر مع القطع الاثرية، ففي كل متاحف العالم او المعارض يرى الانسان القطعة الاثرية، بينما في هذا المتحف يعزز علاقته مباشرة، اذ يستطيع ان يشاهد بأم العين من اين استخرجت القطع الاثرية وكيف جرى ترميمها والحفاظ عليها وابرازها عبر "تعزيز العلاقة بين الانسان والاثار على قاعدة من "الارض الى العرض".

تاريخ "الفرير"

بدأ العمل في حفرية "الفرير" عند تخوم المدينة القديمة وتحديدا في شارع الشاكرية المجاور لمتحف صابون عودة عام 1998، بعدما إستملكتها مديرية الأثار عام 1960 في عهد الامير موريس شهاب عقب العثور فيها على عمود تاريخي يعود الى الحقبة الفارسية وهو الان موجود في المتحف الوطني وبقيت على حالها الى ان أعطى في العام 1998 المدير العام السابق لمديرية الاثار الدكتور كميل الاسمر الاذن للمتحف البريطاني لبدء الحفر والتنقيب عن آثار صيدا، قبل أن تكتشف أواخر العام ذاته اول طبقات حقبة 3000 عام قبل الميلاد وتكر السبحة.

ومنذ ذلك الوقت اي قبل ثمانية عشر عاما، وأعمال الحفر والتنقيب عن تاريخ "صيدون" القديمة تتواصل، حيث يقوم أعضاء البعثة البريطانية الموفدة من المتحف البريطاني ومعهم خبراء آثار لبنانيين العمل في المكان، على أن الاهم، هو كشف الحقبات الزمنية المتعاقبة والطبقات الأرضية المتتالية، إذ ظهر أن هناك 6 طبقات لحقبة 3000 قبل الميلاد، العهد البرونزي القديم، و8 طبقات لحقبة الـ2000ـ العهد البرونزي الوسطي أي الكنعاني، و5 طبقات لحقبة الـ1000، العهد الحديدي أي الفينيقي ثم الفارسي، وصولا الى الاسلامي ما يعني وفق خبراء الآثار، التسلسل التاريخي دون إنقطاع وهذا الامر نادر في لبنان والمنطقة.