بعد تقريره الفصلي عن الواقع الاقتصادي السلبي في لبنان والمؤشرات الدالة على ذلك اقتصادياً، ومالياً وسياسياً، إلى جانب الفساد المستفحل في مؤسسات الدولة اللبنانية، نشر البنك الدولي مؤخراً دراسة أعدتها «مجموعة البنك الدولي»، في اطار اتفاقية الشراكة الموقعة مع الحكومة اللبنانية، تحدثت عن واقع سوق العمل في لبنان، وعدم قدرته على استيعاب الأعداد المتزايدة من طلبات التوظيف، الأمر الذي يرفع من نسب البطالة ويضاعف من جيش العاطلين عن العمل.
صحيح أن الأزمة السورية في السنوات الخمس الماضية قد ألقت بثقلها على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، ورفعت من منسوب المزاحمة في سوق العمل، وقلصت من فرص اللبنانيين في الحصول على وظائف لكون العامل السوري لديه الاستعداد للعمل بأجر أقل، لكن الصحيح أيضاً أن أرباب العمل في لبنان، الذين يعانون من ارتفاع كلفة الإنتاج، وتراجع قدرة السلعة اللبنانية على المنافسة أمام السلع الأجنبية، يفضلون تشغيل العمالة السورية وغير السورية على العمالة اللبنانية، لخفض كلفة انتاجهم.
وهذه الرغبة والحاجة لدى أرباب العمل اللبنانيين، من صناعيين ومزارعين، موجودة قبل حصول الأزمة السورية، فطالما كان العامل السوري أو المصري أو الهندي...الخ يزاحم العامل اللبناني في سوق العمل، والرأسمالي اللبناني يجنح أكثر نحو تشغيل العامل غير اللبناني بشروط مجحفة لا يستطيع العامل اللبناني تحملها، وهذا الواقع أسهم في زيادة نسبة البطالة بين اللبنانيين ودفع الكثير من الخريجين منهم إلى البحث عن فرص عمل خارج لبنان، بشروط أفضل. ويظهر ذلك أن أزمة سوق العمل المجسدة بتراجع فرص العمل كامنة أسبابها في الأزمة التي تعاني منها قطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي، وهذه الأسباب تعود حسب الخبراء الاقتصاديين إلى العوامل التالية:
العامل الأول: غياب سياسة حكومية توفر الدعم للانتاج الوطني إن كان لناحية دعم التصدير، كما يحصل في الكثير من دول العالم، أو لناحية تأمين الحماية من المنافسة الخارجية.
العامل الثاني: انتهاج الحكومات اللبنانية المتعاقبة، منذ ما بعد الطائف، سياسات رأسمالية ريعية بعيدة عن دعم قطاعات الاقتصاد الحقيقي المنتج للقيمة المضافة والنمو الفعلي، وذلك بالعمل على توفير الظروف المناسبة لأصحاب الأموال من اللبنانيين، وغير اللبنانيين للاستثمار في قطاعات الاقتصاد الريعي غير المنتج،مثل التوظيف في سندات الخزينة وقطاعات المال والتأمين والعقارات والتجارة..الخ، وجرى سن قانون ضرائبي يشجع أصحاب رؤوس الأموال على توظيف استثماراتهم في هذه المجالات الريعية، واسمي هذا القانون بـ «الجنة الضريبية» وعلى هذا الأساس تم مثلاً إعفاء شركة سوليدير العقارية من الضرائب.
العامل الثالث: ارتفاع اكلاف الخدمات العامة بسبب الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي لفترات طويلة، وكذلك المياه، وغياب وسائل النقل العام المنخفضة الكلفة.
وفي هذا السياق يشير الخبير الاقتصادي البروفسور اسكندر كفوري إلى أن «البطالة تتصدر حالياً قائمة المشاكل التي يعاني منها المجتمع اللبناني، والتي تزداد حدة يوماً بعد يوم، إذ أن الأزمة الاقتصادية تتفاقم في ظل أوضاع غير مستقرة وتفكك المؤسسات والشركات والمصانع، ما يؤدي إلى اخراج العمال والموظفين من أعمالهم، والإلقاء بهم إلى الشارع مع تزايد مشاكل العمال والموظفين وخروجهم في تظاهرات احتجاجية من دون إيجاد حلول ناجعة لهم ولا حتى مؤقتة».
إن سبل الخروج من هذه الأزمة بات يتطلب استنفاراً سياسياً ووطنياً، لا يقبل التأجيل وذلك من أجل:
1 ـ وضع حد للأزمة السياسية عبر إقرار قانون انتخابي يحقق صحة وعدالة التمثيل، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وثم تشكيل حكومة جديدة، وإعادة الحياه إلى جميع المؤسسات التشريعية والتنفيذية في الدولة، وإحياء دور أجهزة الرقابة والمحاسبة.
2 ـ وضع خطة طوارئ اقتصادية تبدأ بإعادة النظر في السياسات الريعية والضرائبية والعمل على اعتماد سياسات اقتصادية متوازنة لا تهمل الصناعة والزراعة والسياحة لصالح قطاعات المال والمصارف والخدمات، وإنما أن تكون هذه القطاعات مكملة لبعضها البعض.
3 ـ النهوض بقطاعات الخدمات، وبالدرجة الأولى الكهرباء، واخراج هذا القطاع من أزمته المزمنة، والعمل على إيجاد حل جذري بمساعدة دول صديقة تملك القدرة والإمكانيات في هذا الحقل.