تلفظ حفرية "الفرير" الاثرية في شارع "الشاكرية" في صيدا كل عام المزيد من أسرار الارض ومعها تاريخ "صيدون" القديمة على وقع استمرار عملية بناء المتحف الوطني في ذات المكان، وقد اكتشفت بعد 18 عامًا لتنقيب فريق البعثة البريطانية بالتعاون مع المديريّة العامة للآثار، المزيد من اسرار الارض وعادات ابناء المدينة ومنها غرفة جديدة في معبد الألفية الثانية من الحقبة الكنعانية البالغ طولها 48 مترا، اضافة الى مذبح مغطّى بخشب محروق، كان يستخدم في طقوس تقديم الأضاحي، فضلا عن محارق بخّور وأواني طعام جديدة لطقوس العبادة.
وتعتبر حفرية "الفرير" في صيدا، من أهمّ الاكتشافات الاثرية في لبنان نظرا للترابط الزمني والتاريخي في تسلسلها، ناهيك عن حجم المكتشفات الضخمة كل عام منذ بدء التنقيب من 18 عاما والتي تدل على اهمية مدينة صيدا وحضارتها الضاربة في جذور التاريخ وابرزها تمثال لكاهن، طوله 115 سنتيمتراً ويعود تاريخه الى القرن السادس قبل الميلاد وهو تمثال لم يعثر على شيء مماثل له في لبنان منذ بداية ستينات القرن الماضي، اضافة الى سور صيدا القديم الذي يعتبر الحلقة الاخيرة من تاريخ صيدا الغابر، والذي يشكل حلقة الوصل مع التاريخ الحديث بدءا من القلعتين البحرية والبرية والمتعبد "الصيداوي" او "الصيدوني" (اي هيكل او مجسم لانسان كامل)، منقوش بالبلاستير، يظهر الوجه فيما اليدان مضمومتان الى الصدر احتراما وتعبيرا عن الطاعة والولاء، ناهيك عن غرف ومستودعات القمح والشعير وسواهما، ونحو 114 مقبرة ومئات الجرار الفخارية التي تدل على كثافة المبادلات التجارية من لبنان الى اليونان، الى جرار من جزيرة "رودوس" ومنها "جرة" عليها "قرن ثور" وداخلها هيكل عظمي وعقد من الذهب والعقيق وحلق مزدوج من البرونز، ما اتاح فهم الطقوس المدفنية.
وقالت رئيسة البعثة الدكتورة كلود ضومط سرحال، ان عمل بعثة صيدا الأثرية لعام 2016 انطلق في الشتاء بين كانون الثاني وشباط، اثناء وضع أساسات متحف صيدا الاثري المستقبلي، واستمر موسم التنقيب خلال شهري آب وايلول، مشيرة الى ان "الاكتشافات الاخيرة القت ضوءاً جديداً على اساليب ممارسة طقوس العبادة في الألفية الثانية والأولى قبل الميلاد، كجزء من هذه الثقافة القديمة التي لا تزال الى حد كبير غير معروفة في لبنان، بينما هناك أدلة واضحة في صيدا عن استمرارية هذه الطقوس في معابد الألفية الثانية والأولى قبل الميلاد التي يتم التنقيب عنها حاليا".
معبد كنعاني
واوضحت الدكتورة سرحال أنّ غرفاً جديدة اكتشفت هذا العام في معبد الألفية الثانية من الحقبة الكنعانية البالغ طوله 48 مترا وفي احدى هذه الغرف مذبح مغطى بخشب محروق، كان يستخدم على الارجح في طقوس تقديم الأضاحي وتؤكد بقايا الحيوانات التي عثر عليها قرب المذبح على تناول لحم الاضحية خلال المراسم الدينية في المعبد ووصل التنقيب في بعض الغرف لمسافة كبيرة عرضها يتراوح بين ستة وسبعة امتار، وتبيّن انها تمتد تحت الطريق العام المحاذية للموقع، ما يؤكد ضخامة مكان العبادة هذا وان المعبد المصغر الذي عثر عليه على ارضية الغرفة، احدى الادوات النادرة المستخدمة في طقوس العبادة التي تكتشف في صيدا وسيتم عرضه في المتحف المقبل.
ويمثل النموذج بشكله الذي يشبه مزارا مصغرا محمولا رمزا طقسيا، وشبه معبد بديل من المعبد الفعلي، يوضع فيه تمثال لإله وفي معظم الحالات يكون التمثال لإلهة الخصب عشتار المعروفة ايضا باسم أنات والتي تقرن عادة بنقش أسد او حمامة او هلال، ويعلو واجهة نموذج المعبد رأس أسد محزوز العينين، ويتدلى من فمه لسان مشقوق يسمح بتدفق السائل عبر ثقب في أعلى رأس الحيوان، اما باب هذا المعبد المصغر، وهو بارتفاع النموذج نفسه، فيبرز على جانبيه نتوءان يشيران الى انه كان يقفل بخيط.
محارق بخور
كما تمّ هذا العام ايضا اكتشاف مواد طيّبة الرائحة، مثل البخور، وهو ما يشير اليه اكتشاف محارق بخور قابلة للحمل لجهّة خفة وزنها وتقارب مقبضيها تسمح بوضعها بسهولة في راحة اليد واستخدامها، وقد رجحت الدكتورة سرحال، ان الهدف ضمان طهارة الموقع، فكان يتم استخدام محارق عطور أو مباخر من الطين تطور لاحقا الى صنع محارق مماثلة من البرونز في مشاغل الفينيقيين، وتصديرها الى اماكن واسعة وبعيدة عبر البحر المتوسط، بينما في صيدا كانت القبور تحفر خارج المعابد، لكن الاحياء كانوا يحييون ذكرى امواتهم ويقيمون مآدب جنائزية في إطار احتفالات لتكريم اسلافهم"، كذلك عثر على إناء مزين بما يشبه العقد الذي يرتديه الاشخاص في قبر يعود الى بداية الالفية الثانية قبل الميلاد، ويضم رفات شخصين احدهما صبي في الثانية عشرة من العمر والثاني طفل صغير في الثالثة او الرابعة وقد دفن الاثنان في الوقت نفسه تقريبا، اما الإناء الذي وضع معهما، فجرى تحويره الى مجسم انساني باضافة ثديين عند عنقه، في اسلوب دمج جديد حوّله الى ما يشبه المرأة، بهدف الايحاء بمرافقة الأم لولديها الى مثواهما الاخير".
النشاط البشري
وكذلك كشف التنقيب عن مرحلة تاريخية مهمة جدا وتحديدا القرن الحادي عشر قبل الميلاد، حيث تؤكد الدكتورة سرحال انه "خلال هذه الحقبة تعرض شرق المتوسط، بما في ذلك رأس شمرا - أوغاريت، للتدمير على يد شعوب البحر، غير ان المعبد الذي يشهد اعمال التنقيب في صيدا يظهر بشكل واضح استمرار النشاط البشري فيه، اي انه على عكس باقي المنطقة، لم يتعرض للتدمير خلال تلك الفترة، وان المدينة كانت مأهولة في شكل مستمر من دون انقطاع حتى القرن السابع قبل الميلاد، وشهد المعبد مظاهر احتفالية نشطة تشهد عليها كمية الأواني الفخارية التي عثر عليها، وكذلك الاكتشاف الخاص جدا لملعقة من المرمر(الرخام) تستخدم في الطقوس الدينية على شكل زهرة "لوتس" ملونة بالاحمر، وقطعة من عظم الحيوان منحوتة, وعقد من الحلي, ومشط فريد من نوعه يستعمل في مرحلة الاستعداد من اجل الدخول الى المعبد، كما بالاضافة وجدت مجموعات من اواني الطعام اليونانية، بما في ذلك اطباق صنعت خصيصا للتصدير الى الشرق وتعود هذه الأواني اليونانية الاحتفالية المكتشفة في معبد صيدا الى ما قبل انتشار هذه الممارسات في منطقة بحر ايجه وايطاليا.
في المحصلة، فان هذه الاكتشفات الجديدة، رفعت منسوب الامل لدى ابناء صيدا بان يكون للمدينة متحف وطني فريد من نوعه في العالم، شاهد على العصور الماضية وحافظ للكنوز التي لفظتها حفرية الفرير والتي لا تزال أعمال التنقيب جارية فيها على قدم وساق.