بإستثناء ملامح الفقر المدقع والواقع الإجتماعي المذري، كل شيء تغيّر في طرابلس بين السنوات القليلة الماضية، واليوم. نعم، كلّ شيءٍ تغّير في الأمن والسياسة وصولاً الى إهتمامات أهالي عاصمة الشمال. في الأمن، لا جولات قتال بين باب التبانه وجبل محسن، وما من أحد يتعرّض لأهالي الجبل عندما يقصدون أسواق المدينة. وفي هذا السياق، يقول مصدر أمني رفيع المستوى، "وكيف لا يكون الوضع كذلك ما دام القرار السياسي يغطّي الجيش والأجهزة الأمنية، وما دام الجيش اللبناني ينتشر أمام مدخل كل شارع أو حي من تلك التي كانت تعرف بمحاور القتال، وما دام شارع سوريا الفاصل بين الجبل والتبانه تحت السيطرة الأمنية". أضف الى ذلك، يؤكد المطلعون على الواقع الأمني في طرابلس، أن الإشكال الفردي الذي كان يعكّر ليالي المدينة في الأمس القريب ثم يتطور الى حرب بالأسلحة المتوسطة والسكاكين، لم يعد يحتاج اليوم الى أكثر من نصف ساعة لإنهائه ووضع حدٍّ له عبر ضبط الوضع الميداني وتوقيف من يجب توقيفهم.
وكما في الأمن كذلك في السياسة، فالتغيير واضح، وليس من الصعب أبداً إكتشافه. فخلال جولة طرابلسية تبدأ من المدخل الجنوبي لناحية البحصاص، مروراً بشوارع التبانه وأبي سمرا والقبّة والمنكوبين، وصولاً الى البدّاوي، لا يمكن رصد ولو صورة واحدة لرئيس تيار "المستقبل" النائب سعد الحريري، وذلك بعدما كانت الجدران والجسور ممتلئة بصوره واللافتات المؤيدة له. مكان صور الحريري، حلّت صور وزير العدل المستقيل اللواء أشرف ريفي، تنافسها صور قادة المحاور البارزين، كزياد علوكي وسعد المصري، وصور رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. وفي الآونة الأخيرة حقّقت صور النائب محمد كبّاره إختراقاً على خلفيّة السجال الكلامي الذي دار بينه وبين اللواء ريفي.
هذا المشهد المتغيّر في عاصمة الشمال، لا يقتصر فقط على الأمن والسياسة، بل ينسحب أيضاً على المزاج الشعبي لناحية الأولويات. ففي السابق، لم يكن من الصعب ابداً على الإعلاميين أن ينزلوا الى الشارع ويحصلوا على كمٍّ هائل من التعليقات المصورة من المارة حول قضية ما، أكان الموضوع المطروح في السياسة أو الأمن وحتى المطالب الإجتماعية. أما اليوم، فلم تعد هذه المهمة سهلة، وذلك بسبب تغيير سلّم أولويات المجتمع الطرابلسي، الذي أدرك أن جولات القتال والتوتر، لم يدفع ثمنها إلا الصغار فقط، ولم يحاكم ولو سياسي واحد أو مموّل واحد من المتورطين فيها، أصبح تركيزه اليوم بحسب أكثر من إستطلاع للرأي، على العيش بسلام وتأمين لقمة العيش، بعيداً كل البعد عن الإدلاء بتصريح يدعم هذا الزعيم وآخر يؤيد ذلك النائب، خصوصاً أن هذا التصريح الذي قد يدلي به لهذه الوسيلة الاعلامية أو تلك، قد يورطه ويدخله السجن، من دون أن يرى من وراء القضبان من يقف الى جانبه من الذين دعمهم، أقله على صعيد تأمين المحامي الذي سيتوكّل عنه وتغطية أتعابه.
إذاً طرابلس اليوم مختلفة تماماً عن طرابلس الأمس، فهل يترجم هذا التغيير الأمني والسياسي والشعبي في صناديق الإقتراع على عكس المرّات السابقة ام أن الأموال التي قد تدفع ستفعل فعلها في المدينة الأكثر فقراً في لبنان؟