أفكّر بتعريف حروب العربوكوارثهم المستوردة. تلك حروب لا هوية لها. هي ليست بالحروب الكبرى أو التقليدية المعلنة ولا هي بالحروب الباردة المعروفة الأسباب والأحداث والنتائج. هي ليست حروباً أهلية أو طائفية محضة أو حروباً عالمية صغيرة بنسخٍ متعددة فوق أرضنا وقد ذقنا بعضها في لبنان، وأسماها غسّان تويني لبنانياً" حروب الآخرين على أرض لبنان". إنّها شيء من هذا كلّه مزداناً بالفوضى الشاملة التي تمحو التواريخ، وترهّل الحكمة،وتشوّه الأديان، الى حدود القول بأنّ العالم، بغربه وشرقه وبأنساق العيش فيه وأطماعه، صار مشغولاً بهندسة هويتنا ومستقبلناملقياً كوارث الدنيا علينا حيث لا أستقراربعدما شلّع أبوابناوصرنا في مهب الرياح العاتية من جهات الدنيا.
تلك حروب تبرز فيهاتهديم العواصم العربيّة التي كانتشعوبها تعتدّبجذورها التاريخيةالضاربة في عراقة التاريخ القديم وتنهض حضارة العواصم الحديثةالمتألّقة الفاتنة التي تسبق جذورها ومظاهرها العمرانية حركة المستقبل والعالمحيث لا حدود لها ولا توقّف، لا يحيّرها سوى تكالب الدنيا على تلويث ماضيها الديني والإنساني.
وأفكّر بضخامة الإستبداد والحقد العالمي اللاحق بالعرب على المستويات كلّها. واقعياً تنكشف مرارات وتعقيدات المناخ العام بعدما صعب تفكيكه فتشلّع، أوإعادة تلحيمه وجمعه إلاّ بالعيش مع المزيد من أسوأ مراحل الويلات والحروب والتلطيخ والتشويه. ويبدو العرب مشتّتي العمران والأفكار والجماعات وفي الأشكال والمضامين يستحيل عليهم إعادة صيغة الجمع ، مع أنّ إشراقات التاريخ العربي والإسلامي ليست بهذه الصور البشعة التي تظهر؟.
سؤآل أصعب: هل كان العرب حضارة لا حدود لها وصاروا بفعل الإستبداد المتعدّد الهويات والأساليب عربين وأكثر؟
الجواببملاحظة لغوية طريفة ذات مداول حضاري قفزت أمامي حول هذا الفعل الماضي الناقص أعني "كان" :
تنتسب كان وأخواتها: أمسى، أصبح، أضحى، صار، ما زال ، ما برح، ما أنفك...الخ الى رحمٍ لغوي واحد أو ما يعرف بالعربيّة بالأفعال الماضية الناقصة. وبالمقاربة الأفقيّة البسيطة ، يمكن السؤآل عن معنى الفعل الماضي الناقص الذي نجده ربّما ينتظر الحاضر أو المستقبل كي يكتمل أو يلحق به، لكن أن يجتمع هذا الماضي بنقصه وتعثّره أو بطئه ليجذب الحاضر والمستقبل الى خانته فمسألة تحتاج الى ما يتجاوز الرياضيات الحديثة بحثاً عن إيجاد البراهين المنطقيّة. قد يفترض الباحث أنّ الزمان عرف إكتماله، بهذا المعنى، مع بدايات الأديان التوحيدية، وبشكلٍ خاص مع الإسلام الذي أخرج العرب من حياتهم القبلية التي أكتست وهجها وحضارتها سمات خاصّة، بما فيها تساوق الماضي والحاضر والمستقبل الذي يستظلّ زمن الوحي . لكن مع تحوّل العالم في ما يسمّى عصر العولمة الى مساحة شاسعة ، وبمتناول الجميع، لعرض الأفكار والمبتكرات والتحدّيات، تضاعف التحدّي الحضاري بين حدّي الحوار والصراع بهدف إيقاظ الصراعات المتنوّعة والتي لا حدود لمخاطرها. ولشدّة ما أنا مسكون في قراءاتي اليوم حتّى العظم في الوجه المشرق تاريخياً لهذه البقعة الخصبة من الأرض وساكنيها على المستوى الديني والقيمي والإنساني كما على مستوى كنوز الأرض التي جعلت العالم كلّه يحوم فيها وحولها كنقطة العسل الأبدية، أراني ألجأ الى المجادلات اللغوية في إعادة الإعتبار للعرب. وعندما أقول اللغة فإنّني أقصد الحضارة عندما تتكدّس وتتصفّى وتشرق وتبهر وتتفاعل مع العالم الذي لا همّ له سوى تدميرها البطيء والمباشر.
أفكّر أكثر بكلمة العرب التي ترتكز أساساً الى جذرٍ عظيم هو العين والراء والباء. ولو ذهبنا في تركيب ما يشتقّ من هذا الجذر الثلاثي لوجدت أمامك أوّلاً: برع والبراعة بمعنى الحذاقة التي يسيل منها الذكاء الخارق والمبادرة وهذا متوفّر في تاريخ العرب القديم وفي عراقة الشرق عندما كان العالم كلّه غارقاً في عصور الإنحطاطوالظلام. ولوجدت أمامك ثانياً: ربع وتشمل الربوع الترابية والمائية والسماوية التي لا يشبع النظر والنفس من التحديق فيها ومنها تصبح تلك البقعة مخزن الصبر والأدب وحسن الطوية واللطافة وتهذيب الشعوب التي لا تفهم بالإنتماء. ولوجدت أمامك ثالثاً: عبر التي تعني العبور ومن يعبر تلك الربوع والأرجاء الغنيّة الشاسعة يشعر بنفسه وكأنّه في السماء بقرب الخالق العظيم الذي كوّن السماء والأرض ووضع بين يدي أهلها طاقات الشمس والقمر والأفلاك التي يلهث وراءها العالم البارد بحثاً عن طاقات بديلة. وتجد أمامك رابعاً: رعب الذي هورعب العالم وجشعه وقساوته بعدما خصّ الله أرضنا بكلماته الثلاثة التوحيدية وخيراته وقيمه وبساطته التي لا حدود لها. بلغ العرب ربّما حدود الرعب بعدما أدمن العالم بالنظر الى أرضهم كميادين تحقير وإختبار للحرائق، مع أنّه بتعذيبهم المفرط وإنتفاخ خزائنهم تفاعلوا مع الدنيا مختارين أو مكرهين وكانوا يضعون أمام أعينهم ما يلي:
لا يكفي الماء كي تصبح البذرة شجرة قويّة معمّرة تضرب جذورها في أعماق الأرضكما لاتكفي الأموال والثروات وحدها كي تصبح الدول الضعيفة قويّة عريقة في الحضارة والتاريخ. يكفي للعين العالمية وللعقل العربي والإقليمي أن ينظر الى عواصم الخليج كلّها وفي رأسها دبي وأبو ظبي كي يفهم قدرات العقل والطموح في بناء المدن السوبر حديثة في زمنٍ تتساقط فيه أحجار العرب المنقوشة منذ بابل حيث مرّ الفراعنة والفرس وعرب اليمن والرومان والإغريق والصليبيون والمغول والتتار والبربر والأتراك ودول العالم المعاصر كلّها بكلّ مطامعها وإستراتيجياتها وجيوشها.
أفكّر بالمظاهر العمرانية بين العرب والعالم حيث المعاصرة وتشييد المدن وتجديدها متشابهة تختزن التجارب والأفكار المتعدّدة وتحمل من قوّة المضمون والتحدّيات الثقافية المحكومة بالتحوّلات الدائمة المقيمة في الأفكار والقناعات والإبتكارات. هل يفترض أن يصير العربي غربياً يذوب في مستنقعات الحضارات البائسة، ومهدداً بإستبدادية قاسيةلنير الإستيراد والإستهلاكوصرف الميزانيّات والطاقات التي يمكن الركون إليها بوصفها طاقات كفيلة بتأمين الإستقرار لكنها تدفع قطعاً الى البحث عن طاقات بديلة عندما يستنفدها اللآخرون؟
صحيح، عندما فقد التوازن والإنصاق، كان العقل العربي يعمل جاهداً محاولاً فهم المستوردات خصوصاً العسكرية منها وتفكيكها وتطويرها، وبغفلةٍ عمّن صنّعها وعرضها وصدّرها، لكنها محاولات يجب أن تدرج، عبر العقود الطويلة، في خانة الصراع العربي "الإسرائيلي" موقد البؤس المشتعل في الحرائق بين العرب والعالم. يمكن فهم سقوط بعض الأنظمة، لكن لا يمكن فهم تحطيم الجغرافيات وبعثرة المجتمعات وهدر الميزانيات وتحويل أرض التوحيد الى خرائب ودفعها قروناً الى الوراء في نصف عقد.
وبسؤآل بسيط: ماذا يعني محو التاريخ بكلّ معالمه الحاصلة اليوم في أنحاء العرب سوى تصليب يهودية" إسرائيل" بكونها الكلمة المختارة الأولى في تحاور السماء والأرض؟