الأرجح أن اللعب السياسي مستمر ولا مؤشرات جدّية على الانتقال من مرحلة المراوحة والاستنزاف الى مرحلة لجم التداعيات الدستورية والقانونية، وعلى كافة الصعد الاقتصادية والاجتماعية. هذا ما يشي به الموت البطيء للدولة، فيما عملية النهش في جسد الدولة جارية بلا كلل ولا ملل. فالتغني بفتح ملفات الفساد يكشف عن فساد اشدّ وأدهى. هي إعادة تقاسم عمليات النهب سواء في تلزيمات النفايات، أو الانترنت غير الشرعي وصولا الى مراكز الميكانيك.

النقابات العمالية في معظمها تحولت الى سيف بيد هذا السياسي او ذاك. تتحرك بإيعاز سياسي. ويا ليتها تتحرك لسبب يتصل بمصالح من تمثل. بل مع الاسف الشديد، من اجل غايات اخرى... فالأرجح وانطلاقا من الخلفية السياسية التي تحرك نقابات النقل ودفعتها امس الى الشارع، فهي ليست مدفوعة بمصالح من يفترض انها تمثلهم، بل رسالة الى من يعنيهم الامر ان من يدعي قدرة على تحريك شارعه سيجد في المقابل من هو قادر على اغلاق الطرقات في كل لبنان وليس في جبل لبنان وحده. وليس السبب اعتراضها على تلزيم الميكانيك. هل تذكرون ان في لبنان اتحاد عمالي عام؟ الارجح ان الكثير منا نسي هذا الاتحاد الذي كان وصار اكثر طواعية لنظام المحاصصة السياسية والطائفية في البلد.

هذا من ملامح الموت الذي يجعل من القابض على البلد يذهب نحو مزيد من استثمار هذا الموات السياسي والدستوري وحتى الاخلاقي في حسابات شخصية او حزبية ولا نقول طائفية. الكارثة تطال جميع الطوائف والانهيار ينذر الجميع. لكن كما أن الافراد الذين يملكون خيارات في بلاد اخرى، يمتلكون ارصدة وجنسيات تتيح لهم الانتقال الى وطن آخر، ثمة احزاب ايضا لا تعتبر ان لبنان الوطن والدولة هو مصدر وجودها وبقائها، بل هي تمتلك القدرة على الانتقال من خيار دولة 10452 كلم2 الى كيان آخر وحدود اخرى دون ان تشعر بأي خسارة وجودية طالما ان الايديولوجيا جاهزة لتتناغم مع ايّ خيار آخر. نهائية الكيان اللبناني طالما كانت مجال تندر واستهزاء وطالما وصفت من قبل بعض الاحزاب بأنها كذبة مارونية انطلت على الآخرين.

مفهوم الدولة الامة بمعناها الحديث، كاطار منظم لعلاقة المواطنين بالدستور وفيما بينهم، وكمرجعية عليا تتقدم على ما عداها من ولاءات سياسية او دينية - سياسية، هي الحل وهي الكارثة على من يعتبر ان الدولة اللبنانية هي ادنى من ان تشكل مرجعية لأي مشروع سياسي... من هنا تتحول رئاسة الجمهورية الى هامش، والدستور الى وجهة نظر قابلة للعب، ويتحول الفراغ الدستوري الى وسيلة من وسائل تظهير هامشية الدولة الجامعة لحساب اقطاعيات تتمدد ووتتسلط. واكثر من ذلك يغري هذا السلوك بمزيد من استغباء المواطنين بلعبة الترشيحات. كأن ما يعانيه اللبنانيون على هذا الصعيد هو نتيجة تنوع آرائهم. امرعجيب ان التنوع يصبح هو المأزق، متى كان الدستور يفرض على اللبنانيين ان يتوحدوا على شخص حتى ولو كان نبيا فكيف اذا كان سياسياً.

إتفاق اللبنانيين على شخص سياسي بإرادتهم، هذا يعني انهم وصلوا الى الموت. إذ أن يقول قادة حزب الله ومعهم رموز التيار الوطني الحر ان على الجميع ان ينتخبوا العماد ميشال... فهذا مؤشر على وجود نزعة الغائية ومتسلطة تتحكم باصحاب هذا التفكير، بل نزعة تذهب الى الغاء ما تبقى من دستور ونسفه لحساب منطق لن تكون نتائجه الا لحساب انهاء الدولة الجامعة في سبيل الدولة - الطائفة. واكثر نحو تثبيت سلطة الطائفة الاقوى مادام الدستور والمواطنية والانتخابات في مجلس النواب ليست الا مظاهر شكلية لا معنى دستوريا وقانونيا لها، ولا غاية لها في تنظيم حق الاختلاف والتنوع.

من يرفض التنوع والاختيار ولو في حدوده الدنيا، كالاختيار حتى بين ميشال عون وسليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية... يقول للبنانيين ان حق الاختيار ليس موجودا ولا يمكن ان يكون قائما في الحياة السياسية اللبنانية.

علما ان التيار الوطني الحر الذي يحاول ان ينخرط في لعبة الشارع في سبيل فرض العماد ميشال عون، سيجد نفسه وحيدا هذه المرة. وربما سيشعر بالوحدة مع تحييد حزب الله نفسه عن هذا التحرك. الرئيس نبيه بري في المقابل هو الذي سيستعرض في مواجهة الجنرال لا 14 آذار، التي انتهت، ولا تيار المستقبل المنهمك بما هو اشد واقسى من تهديدات الجنرال.

وحده نبيه بري قال أمس للجنرال: الشارع لي.