لا جرأة لدى القوى الدولية المتغلغلة في مهالك الحرب السورية على الاعتراف بفشل الهدنة هناك، ولا استعداد لاي طرف للتراجع خطوة الى الوراء بعد ما دفعه من تكاليف على مدى سنوات الحرب المدمرة. لم تكد جبهات القتال تتوقف جزئيا عن القصف المتبادل حتى عادت الى الاشتعال تباعا وبوتيرة اكثر سخونة. كل طرف يراهن على انكسار الطرف الاخر ليصل الى حدود التنازل عن مكاسب حققها على الارض. وبانتظار امال ورهانات تبدو طويلة الامد من هنا وهناك، الكل جاهز لضخ المزيد من المقاتلين والسلاح منتظرا حصة تكون بحجم "التضحيات".
ظروف الهدنة التي يعاود وزيرا خارجية الولايات المتحدة جون كيري وروسيا سيرغي لافروف محاولة احياء موتها السريري لا تختلف كثيرًا عن ظروف هدنة شباط. ربما الان المعارك الدائرة اكثر وضوحًا لجهة تحديد موازين القوى على الارض، خصوصًا مع التدخل التركي في الشمال السوري.
المواقف الدولية تؤكد ان الهدنة أصبحت خارج نطاق الفاعلية. المجاملات الحرجة بين كيري ولافروف غير كافية في استدلال حقيقة مواقف دوائر القرار الفعلي، سواء في الكرملين او في البيت الابيض. ورغم الانتقادات الاميركية للدور الروسي فان الاصرار على عدم نعي الاتفاق يظهر انعدام الخيارات لدى واشنطن في حال فشله، مع تاكيد الاخيرة ان لا خطة ثانية في سوريا وتكرار الدعوة لتنفيذ الاتفاقات السابقة سواء الثنائية مع الروس او الاممية الصادرة عن مجلس الامن الدولي.
واشنطن الاكثر ترددا في السير بالاتفاق، تبدو غير مستعجلة بتاتا. ربما الادارة الحالية غير جاهزة لحل نهائي لا يرضي طموحات رئيسها باراك اوباما، كذلك فان حسابات اداراته لناحية ما تواصل تحقيقه من مكاسب على الارض عبر حليفيها الكردي والتركي في الشمال السوري يدفعها للانتظار، وتحصيل مكتسبات اكبر مقارنة بما يعانيه الروسي من انغماس يقارب الى الغرق في افغانستان اخرى، دون نيل مكتسبات سياسية تعادل التبعات العسكرية والاقتصادية لحجم وطموحات تدخله وفق ما يرى كثيرون.
ليس فقط هذا الاتفاق بالمنظور الاميركي غير قابل للتطبيق. واشنطن رفضت نشر تفاصيله، ورغم ابداء حرصها على استمرار الهدنة فان غاراتها على دير الزور جاءت تتويجاً لتجميد اتفاق كيري-لافروف.
في المقابل، فان موسكو تخشى تكرار سيناريو الهدنة السابقة واعادة التنظيمات المسلحة ترتيب صفوفها. تفاهماتها ايضا غير واضحة مع تركيا التي تبقى حليفة واشنطن رغم خلافات ما بعد محاولة الانقلاب. ومع اصرار موسكو على التزام واشنطن بفصل المعتدلين عن الإرهابيين كشرط لنجاح اللتعاون المستقبلي، تتجه واشنطن إلى التنصل من التزامها بفصل المعتدلين عن جبهة "النصرة" الارهابيّة في ظل غياب بديل حليف لها لتغطية اماكن تواجد هذه المنظمة.
البنود التي لم يُكشف عنها من الاتفاق تظهر ميلاً اميركيًا لنقل التفاهمات حول سوريا مع روسيا إلى الأدراج، في انتظار إدارة أميركيّة جديدة تبدل ما عمل عليه اوباما وكيري طوال هذه الفترة، وتريح جنرالات البنتاغون الرافضين وفق ما يقول كثيرون لاتفاق مع الروس في هذه المرحلة.
وفي انتظار فك ارتباط المعتدلين عن الارهابيين، تتجه واشنطن الى تحويل الشمال السوري إلى ساحة نفوذ خاص بها وبحلفائها خارج سياق الاشتباك، وسط اطمئنان من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي توعد بمنطقة آمنة تمتد على مساحة تصل إلى خمسة آلاف كيلومتر مربع.
وبالتزامن مع نجاح عملية درع الفرات التركية، يسير المشروع الأميركي من دير الزور السورية إلى الموصل على الحدود العراقية بخطوات ثابتة وخطيرة، قد تؤدي حسابات خاطئة في احداها الى تفجير حرب عالمية جديدة يوما ما.