قبل نحو شهر، طالبت جماعة «الإخوان المُسلمين» في الأردن، في بيان أذاعه الناطق الإعلامي باسمها، بإنزال «أقصى العقوبات بحقّ الكاتب ناهض حتّر... ونهيب بعلمائنا أخذ دورهم والقيام بواجبهم لمواجهة فكر الإلحاد والتشويه لهذا الدين الحنيف».
وبالفعل، قرّر أحد «العُلماء» القيام بالواجب، بعد نحو شهر، فجاء وأنزل «أقصى العقوبات» بحق حتّر. قتَلَه. القاتل رجل دين، وإمام مسجد سابق، وقد كان مُعتمَداً مِن جانب المؤسسة الدينيّة الرسميّة. لم يَفت الجماعة، في بيانها المذكور، أن تُذكّر بأن «الدستور (الأردني) ينصّ على أن دين الدولة هو الإسلام».
يوم أمس، وبُعيد اغتيال حتّر، أصدرت جماعة «الإخوان» بياناً عن «تلقّيها بأسف نبأ مقتل الكاتب حتّر، وهي تُعرِب عن إدانتها للجريمة والطريقة البشعة التي تمّت فيها». نعم، البيان الأول والبيان الثاني هما للجماعة نفسها. نوع مِن «الشيزوفرينيا»؟ فصام فكري؟ أبداً. هذا ديدنهم منذ نحو قرن مِن الزمن. فعلوها سابقاً، مراراً وتكراراً، في مصر والسودان وسوريا، مِن المحيط إلى الخليج وأبعد، في كلّ مكان كشفوا فيه ظهر أحدهم، وأحلّوا قتله، نظريّاً، قبل أن يأتي «سلفيّ ما» ويحوّل تنظيرهم إلى أفعال. هم «أهل الاعتدال» (قال). هكذا يَقتُل الاعتدال. بدم بارد. بتنصّل. بنفاق.
مشهد آخر مِن المسرحيّة. فقبل نحو شهر، أيضاً، خرجت جهة «مُعتدِلة» أخرى، هي مؤسسة «الإفتاء العام» في الأردن، لتعلن أن حتّر هو مِن الذين «تطاولوا على الذات الإلهيّة، والرموز الدينيّة، وشنّوا هجمة شرسة على هذا الدين للنيل منه وتشويه مفاهيمه، وإننا نطالب بتغليظ العقوبات». وأضاف البيان: «هذا الأمر يجب الوقوف ضدّه بكلّ حزم وإصرار، وليتحمّل المُسلمون جميعاً مسؤولية الدفاع عن الذات الإلهيّة والذب عنها». وهكذا بالفعل، مرّة أخرى، خرج أحد أبناء هذه المؤسسة و»ذبّ» بقوة عن الذات الإلهيّة، و تحمّل، كـ»مُسلِم»، «المسؤولية» التي ذكرتها «المؤسسة»، وأنزل «أغلظ العقوبات» بحق حتّر... أعدمه.
يوم أمس، أيضاً وأيضاً، بُعيد الاغتيال، أصدرت المؤسسة نفسها (الإفتاء العام) بياناً استنكرت فيه مقتل حتّر، مُردّدة عبارة، باتت إحدى أكثر العبارات سُخفاً ومللاً واستهلاكاً، وهي: «إن الدين الإسلامي بريء مِن هذه الجريمة البشعة». حسناً، شكراً. لحظة، لم ينته بعد بيان الاستنكار: «نوجّه الدعوة إلى أبناء المجتمع الأردني جميعاً، باختلاف أديانهم وأطيافهم، إلى الوقوف صفاً واحداً خلف قيادتهم الهاشميّة ضد الإرهاب ومثيري الفتنة». الفتنة! يتحدّثون عن الفتنة! مؤسسة دينية تعرف، حتماً، أنه مِن ألف باء الفقه في الشريعة الإسلامية اعتبار «شنّ الهجوم» على الإسلام، كما جاء في بيانهم الأول، هو توصيف، بلغة الفقه، لـ»العدو المُحارِب»... والموصوف بذلك يُقتَل، بإجماع الأمّة، ثم يتحدّثون عن فتنة! لا وأكثر، يُعربون عن استنكارهم للجريمة، ويتحوّلون فجأة إلى حمل وديع، وبل ويخاطبون الجميع على اختلاف أديانهم وأطيافهم!
لا ننسى، أيضاً، أن رئيس الحكومة الأردنيّة الذي كان أوّل مَن طالب بالتحرّك ضد حتّر، ووزير الداخليّة الذي لبّى، والقاضي الذي كان يَمثل أمامه حتّر، كلّهم مِن «المعتدلين». الملك الأردني أيضاً «مُعتدل» طبعاً، ولو! أليس هو مَن سار في شوارع فرنسا، حزيناً، على مقتل العاملين في صحيفة «شارلي إيبدو» العام الماضي، إلى جانب رؤساء «العالم الحُر» وزعمائه؟ إنّه المُدافع الشرس عن «حريّة الرأي والتعبير» طبعاً، لكن ليس هنا، بل هناك. الآن سيغرق كثيرون في البحث عن تفاصيل القاتل الأخير، أي بمعنى آخر، منفّذ آخر مراحل الجريمة، وسيغيّبون، عمداً وجهلاً، سلسلة القتلة الطويلة عن بحثهم. قُبض عليه، بعد إطلاقه النار، بعد الجريمة مباشرة، والآن سيقبع في السجن، بينما كلّ الذين «صنعوه» سينامون في بيوتهم سالمين آمنين... وسيُكملون صناعتهم.