مصالحة تركيا مع روسيا وقرار إعادة العلاقات مع إسرائيل الى سابق عهدها والتنسيق مع طهران في رفض أيّ تغيير ديمغرافي أو عرقي أو سياسي في سوريا، وما يُقال حول الرسائل التي بعثت بها عبر وسطاء الى دمشق، كلّ هذا قد يكون مقدمة لتغيّر المشهد السياسي بكامله في سوريا نحو الحلحلة هذه المرة.ويُضاف الى كلّ هذا توتر علاقات أنقرة مع واشنطن بسبب ما ذكر عن تورّط أميركي في المحاولة الانقلابية الفاشلة ورفض الإدارة الأميركية التعاون مع مطلب إعادة فتح الله غولن الى تركيا وهو المتهم الاول بالمحاولة، ورفض الادارة الأميركية التخلي عن الورقة الكردية في سوريا.
كلها كانت بين الظروف التي تحوّلت فرصاً سهّلت لأنقرة دخولها العسكري الى شمال سوريا من دون أن يثير ذلك أيّ ضجة كبيرة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
إقتناعات تركية كبيرة تتردّد ومفادها أنّ أنقرة لو لم تتحرك في 24 تموز الماضي في «درع الفرات» لكانت اليوم تكتفي بمتابعة التمدد الكردي نحو كانتون عفرين في شمال غرب سوريا، وتكتفي بقصف مواقع تنظيم «داعش» بالمدفعية رداً على الهجمات الانتحارية داخل أراضيها كما حدث في آخر عملية له في مدينة غازي عنتاب الشهر المنصرم.
الذي نجحت فيه انقرة ايضاً قبل دخولها الاراضي السورية كان التنسيق مع قوات «الجيش السوري الحر» مباشرة ليتحرّك هو ضد مجموعات «داعش» في المناطق الحدودية وتكتفي هي بتقديم الدعم اللوجستي والغطاء الجوّي اللازم في إطارالضرورة التي لا بد منها للرد على الهجمات الإرهابية التي تنطلق من داخل الاراضي السورية وإبعادها من مناطقها الحدودية.
نجاح عملية «درع الفرات» كشف ايضاً عن فشل الطرح الأميركي بأنّ قوات «حماية الشعب» الكردية هي القوة الوحيدة التي تقاتل «داعش»، وأنها هي وحدها القادرة على دحره.
وزير الدفاع التركي فكري إيشيق يقول إنّ الجيش التركي سيتقدم الى كلّ مكان ضروري لحماية الأمن التركي. صحيفة «يني شفق» الإسلامية القريبة من الحكومة التركية تتحدّث عن جهوزية 41 ألف جندي تركي ينتظرون على الحدود للعبور والتقدم نحو مدينة الباب في حال تأخرت قوات «الجيش السوري الحر» في الوصول الى هناك.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعلن من نيويورك: «سندخل الباب». كلام تركي نسمعه من الداخل ويتكرّر وهو أنّ هناك مَن ينتقد «المغامرة التركية المكشوفة» في شمال سوريا، لكنّ بعض هؤلاء كان يتساءل قبل اشهر فقط عن التقارب بين أنقرة و»داعش» والخدمات المتبادَلة بينهما في سوريا والعراق.
تركيا يغضبها أن لا يُقال كثيراً حول انتشار «داعش» وتمدّده في العراق وسوريا في العامين الأخيرين واقترابه من حدودها الجنوبية ومحاولة تقاسم هذه المناطق مناصفة مع القوات الكردية تمهيداً لإشعال الضوء الأخضر الأميركي امام الأكراد للتمدد شمالاً بحجة محاربة «داعش» وربط الكانتونات الكردية بعضها ببعض والبقاء فيها بحماية أميركية.
قوات «الجيش السوري الحر» وبالتنسيق مع القوات التركية استطاعت حتى الآن السيطرة على بقعة جغرافية مساحتها نحو الف كلم مربع، لكنّ خطة تركيا هي الوصول الى «الباب» وتوسيع رقعة «المنطقة الآمنة» الى 5 آلاف كلم مربع. وهي لن تكون مسألة سهلة.
تركيا تتمسّك بـ»المنطقة الآمنة» لكنها تعرف جيداً أنّ ذلك يتطلب توفير الأجواء السياسية والديبلوماسية التي تساعدها على إقامة هذه المنطقة وكسب الدعم الأميركي والعربي قبل الدعم الروسي والإيراني وتأمين الغطاء القانوني والتقني والمالي اللازم لتجهيزها وإحيائها.
تعقيبا على عملية «درع الفرات» التي أطلقتها قوات «الجيش السوري الحر» بمساندة تركية في الشمال السوري، أكّد أردوغان أنّ لدى بلاده خططاً عدة تجاه سوريا، مشيراً الى أنّ من المبكر الإفصاح عنها. فما الذي يخبّئه لنا أردوغان؟
تحليلات تركية ترى أنّ أنقرة تخلصت من عبء ناعورة المياه الأميركية التي كانت تزوّدها المياه في شمال سوريا بمناصفة عادلة مع الوحدات الكردية، لكنّ تركيا قررت أن تحفر هي بئراً يوفر لها حاجتها وحاجة حلفائها بعيداً من الكرم الأميركي. هل التباعد السعودي ـ الاميركي الأخير في قراءة المشهدين السوري واليمني وطريقة تعامل الرياض مع واشنطن أعطيا أنقرة فرصة تقليد النموذج السعودي في ذلك؟
إقتناعٌ تركي آخر ظهر الى العلن بعد انطلاق «درع الفرات» هو أنه كلما ابتعدت انقرة عن واشنطن في سياستها السورية كلما تحرّرت أكثر في الوصول الى ما تريد، خصوصاً أنّ موسكو الى جانبها تفتح حضنها منتظرة.
النقلات التركية الاخيرة في شمال سوريا قد تكون هي التي دفعت واشنطن الى التوجّه نحو موسكو للتفاهم السريع على الملف السوري لقطع الطريق على الخطة التركية أولاً، ومنع أيّ تقارب تركي ـ إيراني في سوريا ثانياً.
تساؤلات كثيرة بدأت تظهر الى العلن في ضوء التحرّك التركي في شمال سوريا:
هل ستتخلّى أنقرة عن كلّ التزاماتها وتعهداتها وطروحاتها حيال الملف السوري؟ وهل العملية التركية، كما تقول أنقرة، ستساهم في وحدة سوريا السياسية والإدارية؟ أم إنّ خريطة جديدة تتشكل تحت إدارة المنطقة ـ المدينة الآمنة في الاراضي التي يسيطر عليها الجيش السوري الحُر؟
العملية العسكرية التركية غير واضحة المعالم في ما يتعلق باستمراريتها، ولا شك في أنّ تقدم «الجيش السوري الحُر» مرهون بالدعم التركي له، ولدى توقف هذا الدعم قد لا يتقدم «الجيش الحُر»، وهذا يقود إلى بقاء تركياً عنصراً فاعلاً في الساحة السورية، فهل سيقبل اصحاب النفوذ والمصالح الإقليميون والدوليون ذلك؟
وهل ستقبل المعارضة السورية أن تتحوّل «المنطقة الآمنة» الموقتة منطقة طويلة المدى بديلاً من مشروع إسقاط النظام وشعارات الثورة السورية التي انطلقت من أجلها؟
القيادات السياسية التركية كررت مراراً أنّ حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي المتعاون مع حزب العمال الكردستاني المصنفين بين الجماعات الإرهابية تركياً، يعدّ لإنشاء دولة كردية شمال سوريا، وأنه يلعب ورقة تنظيم «داعش» الذي يفتح له طريق مشروع من هذا النوع. فهل من المعقول أن تتورّط تركيا في مشروع مماثل عبر إعلان «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا التي قد تتحوّل مصيدة طالما قالت إنها لن تسقط فيها؟