من مثل "الابن الضال" نقتطع هذه الجزئية من حوار الابن العائد مع أبيه:
- يا أبتِ إني خطئْت إلى السماء وإليك، ولسْتُ أهلاً بعد ذلك لأنْ أُدْعى لك ابناً.
فقال الأب لخدمه:
- أسرعوا فآتوا بأفخر حلّة وألبسوه، واجعلوا في إصبعه خاتماً، وفي رجليْه حذاءً، وآتوا بالعجل المسمن واذبحوه فنأكل ونتنعم، لأن ابني هذا كان ميْتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد.
ليس لبنان بأبهى حلته ليقيم حفلاً للرئيس الحريري كلما ذهب وعاد، وليلبسه الحلة التي ينتظر، وخاتم السراي بات في دهاليز لا يمكن للرئيس الحريري دخولها، ولبنان المنهار اقتصادياً بات أبناؤه حفاة وليسوا على استعداد للاستقبالات والزحف الجماهيري، والعجل المسمن لا يمتلك ثمنه سوى من عاشوا على موائد الحريري الأب والابن حتى "نفضوها" من كسرة خبز، وليست المسألة مرتبطة بتخمينات البعض بأن الشيخ سعد عاد قبل جلسة 28 أيلول ليشارك في جلسة انتخاب الرئيس مادامت هذه الجلسة كما سابقاتها تتمخض ولا تنجب فأراً.
هَمّ الرئيس الحريري الآن هو المؤتمر العام لـ"تيار المستقبل" المزمَع عقده في البيال منتصف تشرين الأول المقبل، ومن سيحضره باتوا معروفين، وهم أنفسهم من يحضرون الإفطارات ويملأون الصالات عندما يطل الرئيس الحريري من الخارج عبر شاشة عملاقة، ولم يعد اللبنانيون بحاجة إلى انتظار صناديق اقتراع الانتخابات النيابية في ربيع 2017 لتقييم أحجام القوى السياسية، وقوة "تيار المستقبل" تحديداً، بعد الذي حصل من سجالات متناقضة بين أركانه، مادام النواب الحاليون الجالسون على مائدة الحريري ليسوا جميعاً أوفياء للخبز والملح، وباتوا على قراراته الشخصية يتمردون، وهم على حق، لأنه ليس بإمكانهم بين يوم وليلة أن ينزلوا "البندقية" الهجومية ويستبدلونها بباقة ورد، سواء باتجاه الضاحية أو الرابية.
"الحالة الإسلامية السياسية المعاصرة" على الساحة السُّنية في لبنان بدّلت كل أحوال الرئيس الحريري، وسواء كانت هذه الحالة ضمن جمعيات أو منظمات، أو متحررة من قيود التنظيم وتعتبر نفسها صدى الشارع، فهي لا تستسيغ "اعتدال" الحريري - لو اعتبر نفسه معتدلاً - ووضعه حالياً كما "الابن الضال" عندما غادر وعاد بـ"خُفّي حنين"، لأن شرط عودته كان أن يعود منتصراً على النظام السوري، فلا انتصر في سورية، بل "انكسر" في السعودية، وغدا الرجل مفلساً مادياً وسياسياً، و"تيار المستقبل" لا يدير محركاته سوى البترودولار، غير المتوفر منه سنت واحد في الوقت الحاضر للمكرمات أو بعد حين لشراء الأصوات.
وهذه الحالة الإسلامية اليوم لا تتمثل في من كانوا سابقاً رافضين لسلطة آل الحريري، لأن عكار يحتضنها منذ أكثر من ثلاث سنوات "النائبان الإسلاميان" عن "تيار المستقبل" معين المرعبي وخالد الضاهر، وطرابلس التي كانت معقل بعض المتطرفين، باتت اليوم ليست "قلعة المسلمين" بقدر ما هي "حصن المتأسلمين"، وفي طليعتهم اللواء أشرف ريفي، ويكفي الرئيس الرئيس الحريري أن يستمع إلى تصريح ريفي في العيد الوطني للمملكة بالبيال ليدرك أنه يزايد عليه سعودياً، وتصريحه الناري خلال استقباله في منزله وفوداً طرابلسية، بحيث بدا وكأنه يقطع الطريق على أي تفكير للحريري بالرهان على ترشيح فرنجية أو السير بالعماد عون، وريفي يمتلك هامش حرية أكثر من سواه، مادام "زعيماً محلياً"، ومادام أنه لن يرى السرايا حتى في الحلم، وليس لديه ما يخسره من خلال هجومه المذهبي على إيران وحزب الله وحلفائه، وهو على عكس "السعودي المعتدل" الوزير نهاد المشنوق، المنافس الأبرز للحريري على بوابة السراي.
وبالعودة إلى أجواء المؤتمر العام الهادف إلى ترميم "تيار المستقبل"، ووسط أجواء استقالة أو إقالة أحمد الحريري من منصبه كأمين عام، فإن الرئيس الحريري سيجالس من لن يقول له "نعم" في كل شيء، وهو لن يقول "نعم" في إعادة الهيكلة لمن باتوا مستهلَكين وانتهت مدة صلاحيتهم، خصوصاً أولئك الذين فتحوا على حسابهم لإرضاء قواعد شعبية مستاءة من غيبة الحريري وغياب الخدمات، وليس بمستبعَد أن تحصل خلال المؤتمر استقالات وإقالات وتطهير لمن باتوا في المناطق لزوم ما لا يلزم، وكائناً ما كان وضع "بيت الوسط" بعد الترميم، فالحريري لن يجرؤ على السير بالعماد عون للرئاسة، ولا بالنائب سليمان فرنجية، لأنه لن يجرؤ أصلاً على السؤال عن مفتاح السراي لنفسه، ما دامت ابوابه تنفس سمومها على حزب الله وهو عاجز عن اسكاتها، والرجل أمام الخيار الصعب خاصة إذا حسم الرئاسة لزعيم الرابية لأن فريق السنيورة يقف له بالمرصاد.
مشكلة الرئيس الحريري ليست مع الآخرين من مناصرين أو حلفاء أو خصوم، بل هي مع نفسه ومع شخصه، لأنه ما زال مُصرّاً على أنه بحجم رفيق الحريري، ويتحرك على أنه فقط ابن رفيق الحريري، وأن شعبيته ثابتة حتى ولو سكن الطائرة، وهو منذ العام 2007 يوم زار باكستان قال: جئتُ أدعم سيادة الرئيس برويز مشرف لأنه صديق الوالد، ثم تردده على الرئيس جاك شيراك ظناً منه أنه إرث دولي عن والده، وانتهاء بإعطاء نفسه حجماً دولياً وإقليمياً، فغدا كمن يوسّع خطوته ولا يدري بالماء التي تجري تحته، ممن لم يجدوا فيه كاريزما رفيق الحريري التي كانت تأسرهم، ولا أموال رفيق الحريري التي تشتريهم، والرجل الذي غادر لبنان خاسراً منذ سنوات، خسر في السعودية أمواله، وخسر في الإقليم كل شيء، وهو كما ذهب عاد، لكن ما ذهب منه لن يعود.