تنشط ورش البناء وحفر الآبار الارتوازية جنوباً. لكن النشاط يصبح تعدّيات عندما يتضح أن ترخيص الورش لم يمر عبر التنظيم المدني ووزارة الموارد المائية والكهربائية، وإنما ببدعة جديدة اسمها «موافقات محلية» مستندة إلى موافقة المدير العام لقوى الأمن الداخلي أو قائد المنطقة
في 14 أيلول الجاري، عزل الجيش وقوى الأمن الداخلي منطقة البص، عند مدخل مدينة صور، لاعتقال فلسطيني ونجله قاوما عملية إزالة مخالفة تمثلت بتشييد غرفة صغيرة في زاوية منزله عند أحد أطراف مخيم البص.
ضبط المخالفة في تلك المنطقة كان لافتاً، إذ إن مشاعات الدولة هناك تشهد تعديات مستمرة منذ عقود طويلة، من دون ضبط.
البوابة الحديدية المحاذية للطريق العام، وتجاورها محال تجارية متنوعة، تدخلنا إلى منزل فياض الصفدي (60 عاماً). طبقة أرضية صغيرة تتقدمها باحة ورثها عن أهله، يقيم فيها مع زوجته اللبنانية زينة أبو خليل وأولاده الـ 12. في إحدى الزوايا، شيد غرفة صغيرة هدمت القوى الأمنية سقفها. فوق الرمال والاسمنت المتبقي، تلمع بقع دماء فياض ونجله محمد، بعدما أطلقت القوى الأمنية الرصاص عليهما أثناء ضبط المخالفة إثر إطلاق الابن النار من بندقية صيد.
"نحنا مش يهود. بيقتلوا قتلى عشان خشّة؟ ماذا لو ماتا؟"، تساءلت زينة. الغرفة كان سيستخدمها فياض لتخزين الخردة التي يعتاش من جمعها مع أولاده، "حاول أكثر من مرة تشييدها على غرار ما يفعله الجيران". تشير الزوجة إلى الغرف والسقوف المضافة حديثاً فوق منازل الجيران التي تقع، مثل منزلهم، ضمن المشاعات. في كل مرة، كانت تحضر دورية لمنعه من استكمال الأشغال. "لا نعرف لماذا رأوا غرفتنا ولم يروا طوابق الجيران؟" تقول. حاولت تدبير واسطة. "رحت على المصيلح (مكتب الرئيس نبيه بري) لطلب واسطة لأنهم عند الانتخابات يؤمّنون لي سيارة لأقترع. قالوا لي مشاع. قلت: اللي حدنا عم يعمّروا وكل البص مشاع. نريد غرفة لضبّ الألومينيوم". صب فياض سقف الغرفة ليلاً، وما إن أطل الصباح حتى أطلت الدورية. هدد بحرق نفسه بالبنزين في حال هدموا الغرفة لأنه "استدان ثمن مواد البناء". أطلقت الدورية النار على فياض، فهوى عن سطح الغرفة، ما دفع بنجله إلى الرد بإطلاق النار من بندقية صيد. الدورية ردت على إطلاق النار، وأُدخل الوالد وابنه للمعالجة ليوم واحد إلى المستشفى، قبل أن يتوزعا بين فصيلتي تبنين والعباسية، إلى حين تحويلهما إلى القضاء العسكري.
كالعادة، القانون لا يطبّق على الجميع. نظرة سريعة على الإنشاءات الحديثة تفضح ازدواجية التطبيق. على طول الطريق من القاسمية إلى رأس البياضة، ارتفع عدد من المراكز والمعارض التجارية والمطاعم. معظمها، بحسب مصدر أمني، لم يشيّد بناء على ترخيص من التنظيم المدني كما يقتضي القانون، وإنما بموافقة من قوى الأمن الداخلي. "بداية كان يحصل أصحاب تلك الإنشاءات (وهم من النافذين والضباط ورؤساء البلديات والمتمولين) على موافقة شفهية من قائد منطقة الجنوب في قوى الأمن الداخلي العميد سمير شحادة الذي يوعز إلى المخافر بعدم تسطير محاضر ضبط بحقها. في المقابل، يقدم صاحب الموافقة كهبة آلية لقوى الأمن أو تجهيزات مكتبية، أو يمول ترميم مخفر" يقول المصدر. وبسبب الجدل الذي أثارته موافقات شحادة بين الأمنيين من جهة، والمؤسسات الرسمية التي تتخطاها من جهة أخرى، استبدلت الموافقة الشفهية ببرقيات من مكتب المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص تحمل عنوان "تمت الموافقة من قبل بصبوص على ورش بناء وحفر آبار ارتوازية محددة المكان والعقار"، ترسل إلى الفصائل والمخافر في المناطق لمتابعة تنفيذها.
تلك الآلية الجديدة تجد تبريراً لها بين بعض رؤساء البلديات والأمنيين والموظفين الرسميين لأنها "تدعم المواطن الفقير لتشييد ورشة صغيرة بحاجة إليها وتوفر عليه تكبّد الآلية التي يقتضيها القانون للاستحصال على الرخصة". إلا أن نظرة على الموافقات لا توحي بحاجة أصحابها إلى الإيواء. بين الموافقات التي حصلت "الأخبار" على نسخ منها، وصدرت في الأسابيع الأخيرة، السماح بتشييد مسبح بمساحة 40 متراً وبجانبه بناء في العقار رقم 787 في النبطية الفوقا، والسماح ببناء طابق بمساحة 200 متر في دبين، وطابق أرضي فوق سفلي في الخربة بمساحة 150 متراً، وطابق بالمساحة ذاتها في شبعا، وتشييد خيمة في جباع بمساحة 120 متر. وبدا لافتاً في بعض الموافقات، إيراد صفة صاحب الموافقة. في الخرايب والصرفند، تمت الموافقة لضابطين برتبة ملازم أول بتشييد طوابق بـ 200 متر. كما سمح لقاض في منطقة جزين بـ"إشادة خيمة قرميد بمساحة 150 متراً لاستخدامها كشقة سكنية".
السماح بحفر آبار ارتوازية له الحصة الأكبر. ويتردد أن هناك "وكيلاً" للآبار يقصده من يريد حفر بئر لمساعدته في الاستحصال على الموافقة لقاء سمسرة مالية، علماً بأن الحفر يحتاج إلى ترخيص، يسبقه كشف دقيق من قبل وزارة الطاقة والموارد المائية والكهربائية. وبين الموافقات السماح بحفر بئر لمصلحة عميد متقاعد في يارين، وبئرين لمتمولين في الواسطة وباريش، وآبار في دبين والخريبة وأنصار والخرايب وحلتا وإبل السقي وعيتا الجبل وكفرسير وحي الوسطاني في صيدا ووادي جيلو والخيام واللوبية والخرطوم وتول والشعيتية.
واللافت أن بعض هذه الموافقات يسمح بالبناء أو الحفر في عقارات غير ممسوحة، كالموافقة على صب سقف على طابق أول بمساحة 150 متراً في كفرشوبا، وإشادة خيمة في الهبارية، وحفر بئر في عيتا الجبل.
ما هو الوجه القانوني لما يحصل؟ في السنوات الأخيرة، منحت وزارة الداخلية حق مراقبة أعمال البناء وحفر الآبار للبلديات قبل أن تعيدها إلى القوى الأمنية. إلا أن مسألة الترخيص بقيت منوطة بالتنظيم المدني والوزارات المعنية بحسب نوع الأشغال. حالياً، يناط بالقوى الأمنية إجراء الكشوفات على بعض الورش التي إما أعطيت موافقة مسبقة من المدير العام لقوى الأمن الداخلي أو تنتظر الموافقة. في حين أن الورش الكبيرة تعفى من الكشف. في القانون، يقصد صاحب الورشة دوائر المحافظة للاستحصال على رخصة قبل المباشرة بها. مصدر في المحافظة، أشار إلى أن المحافظ يسمح بالترميم في الأملاك العامة في حال الحاجة، بموافقة وزير الداخلية. وضمن الآبار، يسمح فقط باستحداث محطة ضخ جديدة في حال تعطّل المحطة الحالية، علماً بأن موافقات المدير العام تتخطى المحافظة والتنظيم المدني بشكل مخالف، فيما الآبار من صلاحية وزارة الموارد.