على مدى أشهر طويلة، سعت الولايات المتحدة إلى رعاية إتفاق بين الأفرقاء العراقيين، حول عملية تحرير مدينة الموصل، التي تحتاج إلى الإنتصار فيها مهما كان الثمن، لكنها لم تنجح في هذه المهمة إلا في الأيام الأخيرة، حيث أرسلت نائب وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إلى بغداد وأنقرة، لوضع اللمسات الأخيرة على العملية العسكرية قبيل إنطلاقها.
من حيث المبدأ، نجحت واشنطن في المهمة الأولى لها على هذا الصعيد، أي معالجة الخلافات حول القوات البرية التي ستشارك في هذه العملية، وسط تصاعد الصراع بين أنقرة وبغداد حول هذه المعضلة، بسبب تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي بادر أولاً إلى الإعلان عن موعد إنطلاق المعارك، ومن ثم دعا إلى أن يبقى في المدينة بعد تحريرها من عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي أهاليها فقط، الأمر الذي دفع وزارة الخارجية العراقية إلى التعبير عن رفضها لهذه التصريحات، معتبرة أنها تدخل سافر وتجاوز لمبادئ العلاقات الثنائية وحسن الجوار.
في هذا السياق، تشير أوساط مطلعة، عبر "النشرة"، إلى أن الأزمة الأساسية كانت تكمن في الخلافات بين الحكومة المركزية في بغداد وقيادة إقليم كردستان في أربيل، بالإضافة إلى مسألة مشاركة قوات "الحشد الشعبي" وعناصر من حزب "العمال الكردستاني" في العملية من عدمها، نظراً إلى الحساسية التي يشكلها التنظيم بالنسبة إلى أنقرة، التي تتواجد لها قوات عسكرية على مقربة من المدينة تتمركز في معسكر يقع بالقرب من مدينة بعشيقة.
وتلفت هذه المصادر إلى أن زيارة المسؤول الأميركي إلى أنقرة، بالإضافة إلى رحلة رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني إلى بغداد بعد ثلاث سنوات من القطيعة، ساهمت إلى حد بعيد في الوصول إلى هذا الإتفاق، الذي ينص على عدم مشاركة القوات التركية في العملية العسكرية، وهو ما ينطبق أيضاً على عناصر "العمال الكردستاني"، في حين أن "الحشد الشعبي" مشاركته ستكون مع شرط عدم الدخول إلى المدينة.
بناء على ذلك، من المتوقع أن تقتصر القوات المشاركة في الهجوم على الجيش العراقي والشرطة الإتحادية والبشمركة والحشد العشائري، بالإضافة إلى المئات من الجنود والمستشارين الأميركيين، الذين كانت واشنطن قد أرسلتهم بناء على طلب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، لكن هذا الأمر لا يعني إنتهاء الأزمة الأساسية الكامنة في إدارة محافظة نينوى بعد طرد "داعش" منها، نظراً إلى الخلافات التي تطغى على المشهد، والتي لا تنفصل تصريحات الرئيس التركي عنها، نظراً إلى أنه كان يأمل بأن تقود المواجهات العسكرية إلى تحويل المحافظة إلى إقليم مستقل يقع تحت رعاية بلاده المباشرة.
على هذا الصعيد، تدعو المصادر نفسها إلى مراقبة جملة من المعطيات التي ينبغي التوقف عندها، حيث أنها تؤشر إلى إحتمال إنفجار خلافات كبيرة بعد تحرير المدينة، بسبب عدم وجود أي إتفاق على المرحلة المقبلة من الناحية السياسية، وتشير إلى القرار الصادر عن البرلمان العراقي القاضي بابقائها موحدة ضمن حدودها الإدارية التي كانت عليها عام 2003، لكنه لم ينس الإشارة إلى أن مصيرها يحدده أبناؤها بعد التحرير، بالإضافة إلى الصراع السياسي الذي يترجم إستجوابات تقود إلى إقالة وزراء في حكومة العبادي من قبل أعضاء البرلمان.
وفي حين تشير هذه المصادر إلى إتهامات لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي بالوقوف وراء تلك الإستجوابات، كان المالكي قد حذر مؤخراً من من محاولات إحداث إنقلاب سياسي يقوده "بعثيون"، مشيراً إلى أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر تعقيداً، وترى المصادر أن الخطوات التي يقوم بها رئيس الوزراء السابق لا تنفصل عن صراعه الخفي مع رئيس الوزراء الحالي على السلطة، لا سيما أنه كان من أبرز المعترضين على محاولات إستبعاد "الحشد الشعبي" عن معركة الموصل، حيث وصف الأمر، في أكثر من مناسبة، بـ"الخيانة".
إنطلاقاً من هذه الوقائع، يبدو واضحاً أن المالكي نجح بالوصول إلى تفاهمات مع القوى المعارضة لبرزاني في إقليم كردستان، أي حزب "الإتحاد الوطني" وحركة "التغيير"، وهو ما ظهر بشكل جلي خلال إقالة وزير المالية هوشيار زيباري، القيادي في حزب رئيس إقليم كردستان، بالتحالف مع رئيس البرلمان سليم الجبوري، في مقابل تحالف آخر يدعم العبادي، الذي لا يزال يحظى برعاية من قبل العديد من الجهات الدولية أبرزها الولايات المتحدة، ويضم بشكل أساسي: "التحالف الوطني" بعد عودة "التيار الصدري" إلى كنفه، "التحالف الكردستاني"، "متحدون"، و"ائتلاف المواطن".
في المحصلة، من المتوقع أن تكون مدينة الموصل، في الأيام القليلة المقبلة، على موعد مع إنطلاق عمليات تحريرها من "داعش"، لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال إنتهاء المخاطر، حيث الخلافات لا تزال على حالها بين الأفرقاء المختلفين، لا بل هي من المرجح أن تتوسع أكثر.