يوحي تطور الأحداث على الساحة السورية، لا سيما بعد إعلان الولايات المتحدة الأميركية وفاة التفاهم مع روسيا، بأن الأمور ذاهبة إلى المزيد من التصعيد خلال الأشهر القليلة المقبلة، خصوصاً بعد أن أدركت واشنطن أن موسكو غير راغبة بالعودة إلى أي تهدئة، إلا وفق شروطها الخاصة، بالتزامن مع إصرارها على الذهاب نحو الحسم العسكري بعيداً، على الأقل حتى الإنتهاء من عملية تحرير مدينة حلب بشكل كامل، التي تشكل هدفاً إستراتيجياً لدمشق.
من حيث المبدأ، الإعلان الأميركي أكد عدم الرغبة بالمواجهة الشاملة بين القوتين العظميين على الساحة السورية، من خلال الحرص على الإستمرار في التنسيق لمنع حصول أي تصادم بين مقاتلات الجانبين، بالرغم من أن الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا كانت قد حذرت من رد مزلزل في حال إستهداف الجيش السوري، في مؤشر إلى أن بلادها تخشى ذهاب "العم سام" إلى مثل هذا الخيار، على قاعدة الحد من قدرات هذا الجيش على الجبهات، ولكن بسيناريو مختلف عن الضربة التي تعرض لها في محافظة دير الزور، التي سارعت الولايات المتحدة إلى التأكيد بأنها لم تكن عن سابق إصرار وتصميم.
وفي حين يبدو الرئيس الأميركي باراك أوباما عاجزاً عن الذهاب إلى الحرب المباشرة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، نظراً إلى أن هذا الخيار يترتب عليه تداعيات كبيرة تتخطى دون أدنى شك الساحة السورية، ربما يكون الرد الأولي عليها في العراق عبر عرقلة إنطلاق معركة الموصل التي تريد الولايات المتحدة الإنتهاء منها بأسرع وقت ممكن، تعود إلى الواجهة إحتمالات التصعيد الميداني من خلال الحلفاء الإقليميين والمحليين، عبر رفع الغطاء عن تقديم أسلحة جديدة ومتطورة إلى فصائل المعارضة المختلفة، مع الحفاظ على هامش يتيح لها التحكم بعدم وصولها إلى التنظيمات المتطرفة.
بناء على ذلك، يمكن الجزم بأن المؤسسة العسكرية الأميركية نجحت في القضاء على طموحات البيت الأبيض الدبلوماسية، حيث كان الأخير يسعى إلى الوصول إلى تفاهم مع موسكو حول الحرب السورية، يمكن الركون إليه لإنجاز تسوية سياسية شاملة في عهد الرئيس المقبل، في حين أن "الجنرالات" كانوا يفضلون منذ البداية عدم التعاون مع الروس، لا بل هم راغبون في إستغلال دخولهم المباشر إلى الحرب لإستنزافهم حتى الرمق الأخير، على نحو يعيدهم إلى بلادهم مهزومين غير راغبين بتكرار مثل هذه التجربة مرة أخرى، بعد أن تجاوزوا عقدة أفغانستان أيام الإتحاد السوفياتي السابق.
في ظل هذا الواقع، تبدو خيارات الإنسحاب بعيدة عن الروزنامة الروسية، مع أنها كانت تفضل الوصول إلى تفاهم أولي مع إدارة أوباما، وبالتالي هي ستسعى إلى تحقيق نتائج ميدانية سريعة، تقلب من خلالها السحر على الساحر، بحيث يكون الرئيس الأميركي المقبل مكبلاً بجملة من المعطيات الجديدة، التي لا تضع أمامه إلا خيارات محدودة لا تضر بأولويات موسكو السورية بأي شكل من الأشكال، وبالتالي سيكون الرهان المقابل أيضاً على الأشهر الفاصلة عن تسلم سيد البيت الأبيض زمام الأمور، لحين تبين الخيط الأبيض من الأسود.
من هذا المنطلق، ستكون المواجهات الحالية هي الأكثر أهمية في تاريخ الأزمة السورية، على عكس ما يتصور الكثيرون، فبناء على نتيجتها سيُرسم مسار الحل السياسي الذي من المفترض أن ينطلق بعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية، نظراً إلى الإرهاق الذي يسيطر على مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين، إلا أن هذا الواقع يتوقف على المدى الذي سيسمح أوباما بتجاوزه، حيث الأسئلة الكبيرة تطرح عن الخيارات التي من الممكن أن يقدم عليها، والتي قد تكون باتت معدومة في ظل التقدم على جبهة حلب من جانب الجيش السوري وحلفائه.
التركيز الأميركي الراهن سيكون على الحرب الدبلوماسية في مجلس الأمن الدولي، التي تدرك موسكو كيفية إسقاطها عبر إستخدام حق النقض "الفيتو"، في حين أن سقف مستوى الأسلحة الذي قد يقدم إلى المعارضة المسلحة، من صواريخ "غراد" بعيدة المدى أو "ستينغر" المضادة للطائرات، لن يساهم في قلب المعادلة رأساً على عقب، وأقصى ما يمكن أن يقوم به هو إطالة أمد المواجهات، سواء كان ذلك في حلب أو في حماه، التي فتحت المعركة فيها بهدف الضغط على دمشق، نظراً إلى أن واشنطن حتى الساعة لا تريد "الشراكة" مع موسكو في المناطق التي يسيطر عليها "داعش" حالياً، وهي لذلك رفضت مراراً التخلي عن جبهة "النصرة"، تحت عنوان التداخل المعقد بين فصائل المعارضة، مع العلم أن تلك الفصائل المدعومة من الولايات المتحدة هي من سارعت إلى رفض إستهداف الجبهة، بحسب ما كان ينص الإتفاق بين القوتين العظميين.
في المحصلة، أشهر صعبة تنتظر الأزمة السورية، قد تؤدي إلى العودة إلى طاولة المفاوضات بشروط جديدة وقد تقضي على فرص الحل السياسي بشكل نهائي، لكن الأكيد أن الدخان الأبيض لن يظهر قبل نهاية العام الحالي.