إنّ أزمة الرئاسة في لبنان نتاج أكيد لأزمة النظام السياسي المعمول به منذ عام 1943، ذلك لأنّ هذا النظام له مكوّنات طائفيّة يتمّ بموجبها تقاسم السلطة المدنيّة بين مختلف الطوائف بحسب أعدادها في البلد، إلّا أنّ هذه الأعداد لا تخضع لتقويم فعليّ.
ممّا يعني بأنّ جوهر النظام هو جوهر عددي، إلّا أنّه لا يخضع لأيّ تغيير بحكم تغيّر الأعداد، خاصة أنّ الطوائف تزداد باستمرار. فمن طائفتين أو ثلاث منذ تأسيس النظام، ازداد العدد ليصبح سبع عشرة طائفة، لكلّ منها حقوق، فتصبح باستمرار حقوق الأفراد من ضمن حقوق الطائفة. وهذا يدلّ على مسائل عدّة:
أولها، أنّ هذا النظام السياسي الذي يعيش لبنان به محكوم بقواعد عدم إمكانية التغيّر. ففي الوقت الذي يتغيّر فيه كلّ شيء في العالم في الأنظمة السياسيّة، وفي الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، يتهالك الناس داخل وضعيات جامدة على كلّ المستويات.
فإذا أخذنا مثلاً على ذلك داخل النظام التربوي، نرى أنّ التربية في لبنان ما تزال قائمة في جوهرها على نظام تعليمي قديم إلى حدّ الاهتراء، بالرغم من بعض التعديلات البسيطة في البرامج والمناهج. ممّا يعني بأننا في هذا المجال بحاجة إلى ثورة تعليميّة تقوم على أُسُس غير طائفية، إذا أردنا أن نغيّر في الأحوال الراهنة. هذه الثورة التربوية المطلوبة حكماً لا يمكن لها أن تنطلق على القواعد الذي يقوم عليها النظام.
إذاً، إنّ أزمة النظام التربوي هي أزمة محكومة بفعل امتداد النظام السياسي إلى عروق الكيان اللبناني، ممّا يجعل من هذا الكيان «مجتمعاً» مختلفاً مع كلّ القواعد التي وضعها ابن خلدون ومن ثمّ دوركهايم في بناء علم المجتمعات الحديث، فلا ابن خلدون ولا دوركهايم لهما علاقة بقيام علوم المجتمعات الحديثة.
ثانيها، أنّ النظام الاقتصادي في لبنان ليس من الأنظمة المعمول بها في الأنظمة الرأسماليّة البحتة، ولا الأنظمة الاشتراكية البحتة ايضاً. فليس هذا النظام نظاماً اقتصادياً حرّاً، وليس نظاماً اشتراكياً بحتاً، في وقت تطرأ على هذه الأنظمة تغيّرات كبيرة. لذلك لا عدل في هذا النظام، خاصة في ظل غياب العدالة الاجتماعية.
فسلسلة الرتب والرواتب هي حقّ من حقوق المواطنين، مدنيّين وعسكريّين، أساتذة ومعلّمين، فلا يجوز أن يُعطى القضاة حقوقهم، وأن يُعطى الأساتذة الجامعيّون حقوقهم أيضاً، وأن يُترك العسكريّون والمتقاعدون وموظّفو ملاكات الدولة وهم يناضلون منذ سنوات. إنّهم يُتركون من دون أن يجتمع المجلس النيابي ولو جلسة واحدة يقرّ فيها قانون السلسلة. إنّ حقوق الجميع في الوظيفة، عسكريّين ومدنيّين، هي حقوق مقدّسة لا يمكن من دونها أن يقوم في لبنان نظام جديد.
لا يمكن أن يقوم نظام جديد في لبنان من دون العدل لجميع أبنائه ولموظفيه من مدنيّين وعسكريّين. إنّ سلسلة الرتب والرواتب، كي تصبح قيد التنفيذ، هي بحاجة إلى إقرار قانون في المجلس النيابي، خاصة أنّ وزير الماليّة قد أعلن مرّات عدّة عن إدخال هذا المشروع ضمن الموازنة العامّة للدولة، ممّا يقتضي إقرار الموازنة العامة، خاصة أنّ لبنان ما يزال من دون موازنة منذ أكثر من عشر سنوات.
إنّ هذا الأمر يقتضي بأن تقف القوى السياسيّة في لبنان وقفة تضامنيّة فعليّة مع الأساتذة والموظّفين الإداريّين والعسكريّين. ففي إقرار السلسلة هذه تعزيز لماليّة الدولة، وإنْ اضطرت الحكومة أن تدفع المترتّبات التي يحكمها قانون السلسلة. لقد تأخّر الأمر كثيراً على اللبنانيّين. إنّ هذا التأخّر ليس من مصلحة الدولة.
ثالثاً: إنّ جوهر النظام السياسي في لبنان يقوم على قواعد التقاسم المذهبي والطائفي، ولا بدّ له أن يخرج من هذه الوضعيّة الفاسدة، وأن يعالج أوضاع الفساد، من النفايات التي أصبحت مجالاً من مجالات تقاسم الغنائم إلى مجالات الخدمة العامّة كافة. فبدلاً من أن تكون هذه الخدمات لمصلحة الناس، أصبحت موضوعاً من موضوعات الاستفادة الشخصية على حساب الاستفادة العامّة لكلّ اللبنانيّين.
نائب في البرلمان اللبناني