ما أرهبَها ساعةً يعترف فيها الرئيس نبيه بري بأن “زعَل” بكركي لا يشبه أي “زعَل” بعدما حاول كثيرون من المصطادين في الماء العكر تظهير عين التينة وكأنها غير مبالية برضى الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من عدمه. طال أمَد الأخذ والردّ بين الطرفين الى أن وجد وزير المال علي حسن خليل الطريق الى الصرح، فكان اللقاء.
سلسلة مواقف دفعت الفريقين الى ترطيب الأجواء بينهما، وأدّى عددٌ من الزوّار المتنقلين بين الدارتين دورًا جوهريًا في إيضاح الفعل وردّ الفعل، ليصل الجميع الى خلاصةٍ مفادُها: المنابعُ كثيرة أما المصبُّ بين بكركي وعين التينة فواحدٌ، وعليه وزّعوا كعك العبّاس ومعه المعمول.
لعبة أسلوب كلامي فقط
لا تهمّ طبيعة الضيافة التي نعِم بها وزير المال خلال زيارته، طالما أن الموقف الذي “بيع” لبكركي قويٌّ بما فيه الكفاية لتصاعد الدخان الأبيض من الصرح البطريركي: “كلّ شيء يريح بكركي نحن جاهزون له”. هذا الكلام في ذاته “يريح” بكركي على ما يؤكد مقرّبون من سيّد الصرح لـ”البلد”، مشيرين الى أن “البطريرك الراعي والرئيس بري يدركان حساسيّة المرحلة وخطورتها، وبالتالي يعوّل كلٌّ منهما على حسّ الوعي لدى الآخر لإنقاذ البلد، علمًا أن إنهاء الشغور الرئاسي همٌّ واحدٌ يجمعهما أما التباينات فتفصيلية وغير جوهرية في الأساس. هي فقط لعبة أسلوبٍ كلامي أوقعت بين الرجلين، أما عدا ذلك فالراعي باقٍ على موقفه من رفض تقويض صلاحيات الرئيس ووضع شروط مسبقة عليه، وبري نفسه يأبى هذا الموضوع ولكنه حريصٌ هو الآخر على شرعية مجلسه وعلى النهوض بحواره الذي أرسى مبادئ يمكن أن تشكّل خريطة طريق لأي رئيس مقبل بغض النظر عن هويته”.
رسالة الى الرابية
مرتاحًا بدا الراعي عقب زيارة حسن خليل. مرتاحًا لدرجة أنه ترك الكلام للوزير ولم ينطق هو بكلمةٍ واحدة بعدما تولّى المطارنة الموارنة في اجتماعهم الشهري قول كلّ ما يجول في فكر سيّد الصرح. أوضح وزير المال ما عليه أن يوضح، أثلج صدر الراعي بتأكيده أن “مجموعة التفاهمات التي عناها الرئيس بري لا تعني أي تقييد لصلاحيات الرئيس ولا تمس بالدستور وبري حريص على ما يتم الإتفاق عليه بين اللبنانيين”. وفيما أشهر حسن خليل سلاحَ “تعطيل جلسات مجلس النواب” غامزًا من قناة الفريقين المارونيَّين الأساسَيْن في البلد، أي التيار الوطني والقوات، مرّر الى الرابية رسالةً من بكركي لما يحمله منبرها من رمزية في كل الأوقات ولا سيما غداة زيارة الدكتور سمير جعجع والوزير جبران باسيل، مفادُها أن “لا فيتو على أحد”.
تجمعهما خطوطٌ حمر
لم تكن الحركة في بكركي طوال الأيام القليلة الفائتة عاديّة. فالصرح شكّل محطّ أنظار وزياراتٍ حاول معظم “أبطالها” إصلاح ذات البين أو قلْ ما تصدّع بين الراعي وبري، خصوصًا عندما ظهرت قسوةُ “كليهما” على الآخر أولًا بكلام الراعي الذي حذّر من أن السير بالسلّة يجعل صاحب القرار بلا كرامة، ليردّ صاحب السلّة تاركًا الأمر للتاريخ و”لاسعًا” الراعي في “الشخصي”. تكثّفت الزيارات المتبادلة قبل أن يخرج بيان المطارنة الموارنة بالتزامن مع لقاء الأربعاء الشهير الذي عادت خلاله البسمة الى محيّا الرئيس بري فكانت “حلوينة” الصُلحة كعك العبّاس الذي قابلته بكركي بـ”المعمول”. هدأت الأمور بين الطرفين قبل أن تختمر زيارة وزير المال أمس والتي شهدت تشديدًا على ما يُرضي الطرفين لا سيما لجهة الارتقاء بالخطوط الحمر العريضة التي جمعتهما في غير مناسبة وعلى رأسها التوجّه الى المجلس النيابي لانتخاب رئيس وعدم التذرّع بالسلّة لتسويغ التغيُّب وتطيير النصاب الواحد تلوَ الآخر.
لحظة تاريخية
في الأمس، استذكر الطرفان، ولو أن برّي نفسه لم يحضر، أهمية اللحظة التاريخية التي سجّلها البطريرك الراعي في 24 نيسان 2014 قبيل مغادرته الى روما، ساعة توجّه الى عين التينة للقاء الرئيس بري، كاسرًا القاعدة التي تقول: البطريرك يُزار ولا يزور. فعلها الراعي مع بري وحده ما دفع كثيرين يومها الى القول إن هذين الرجلين لا يمكن أن يختلفا في الآراء. نادرًا ما تباينت مواقف الرجلين رغم الحرب الضروس التي دارت بين بري والعماد ميشال عون في غير ملفّ، نادرًا ما أظهرت بكركي “حدّةً” في التعاطي تُجاه أيٍّ من الملفات الخلافية، لا بل غالبًا ما اتّفقت مع عين التينة في تكرار العبارة نفسها الداعية جميع الكتل الى النزول الى مجلس النواب لانتخاب رئيس.
مفتاحٌ للعبور
رغم أن زيارة وزير المال كانت كافية لعكس صورةٍ جليّة عن “صحّة” العلاقة بين بكركي وعين التينة، إلا أن المطران مظلوم أبى إلا أن يكرّسها ومن على منبر “الرئيس نبيه بري” الإعلامي (قناة أن بي أن)، حيث أكد أنه “لم يكن هناك من الأساس أي جفاء بين بكركي وبري وتهمنا عودة السياسيين إلى الدستور وليس للبطريركية مرشح معين للرئاسة”. واضحٌ أن بكركي لا تبتغي أي خلافٍ مع أيّ مكوّن وطني على قاعدة: “نريد أكل العنب لا قتل الناطور”، وواضحٌ أيضًا أن ليس في صالح الرئيس بري أن يخاصم رأس الكنيسة المارونية في لبنان لأنها مفتاحٌ في نهاية المطاف للعبور الى الجسم المسيحي سياسيًا وشعبيًا، وواضحٌ أن ليس من مصلحة أحد “تعكير” الأجواء الهادئة هذه الأيام بما قد يسدّ الطريق على التسوية الرئاسية التي يقودها الحريري والتي لم تتضح جدواها من عدمها بعد، وهو ما يسوّغ الحرص المتبادل على كلا الفريقين من جميع الأطراف، ولا سيما من حزب الله الذي يبدو أن لا بصمة له في هذه الزيارة بعدما قرّر الرئيس بري تظهيرها على أنها خطوة أقدم عليها عن قناعةٍ لا نزولًا عند رغبة أو رضوخًا لضغط.
خصوصيّة العلاقة
إذًا هي خصوصية العلاقة تعود لتفرض نفسها بين الصرح وعين التينة. خصوصيّة قد تكون مفتاحًا لحلٍّ قريبٍ يشمل الرئاسة وقانون الانتخاب، لا سيّما متى صدق في واقعة بكركي-عين التينة الأخيرة المثل الفرنسي: بعد العاصفة طقسٌ جميل. فهل يكون طقس بعبدا جميلًا قبل أمطار تشرين الأولى؟