قانون «جاستا»، أو كما هي تسميته الرسمية، «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب» الذي أصدرَه مجلس النواب في الكونغرس وأجازَه مجلس الشيوخ في أيار الماضي، ودخَل حيّز التنفيذ قبل أيام بعد رفض المجلسَين «الفيتو» الذي استخدمه الرئيس الأميركي باراك أوباما، هو استهداف أميركي واضح لمعايير القانون الدولي العام ومبادئه، ومساسٌ مباشر بالمقياس الدولي للحصانات السيادية، فتح الأبواب أمام أفراد لمقاضاة حكومات بسبب مزاعم وتهَم تتعلّق بقيام بعض مواطنيها بأعمال تمسّ أمنَ دولٍ أُخرى.مشروعية التشريع الأميركي هي اليوم في قلب النقاش القانوني الذي جاء على شكل تحرّك سياسي بغطاء قانوني أقرب في شكله ومضمونه إلى منطق العلاقات الدولية من مبادئ القانون الدولي العام وأُسسِه. «جاستا» هو قانون وطني أميركي، لكنّه يشكّل سابقةً قانونية خطيرة تتعارض وتتناقض مع قاعدة شخصَنة العقوبة ورميها في ملعب الدول والحكومات.
القانون الاميركي الجديد يستهدف مباشرةً الأصول السعودية الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية والبالغة ما يعادل 750 مليار دولار أميركي. والذي يفعل ذلك هو الحكومة الاميركية تحت غطاء قانوني لا يقاضي المملكة العربية السعودية من الولايات المتحدة كنظام، إنّما من أفراد ومجموعات وصِفت بالمتضرّرة بسبب أحداث إرهابية.
بعد زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز أنقرة تطرّق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى موضوع قانون «جاستا»، وأعلن أنّه يستهدف المملكة العربية السعودية، ويعمل على الابتزاز السياسي والاقتصادي ضدّها، لكنّه أيضاً يستهدف المنطقة بكاملها.
وإنّ إقرار الولايات المتحدة الأميركية للقانون يعكس حقيقة أنّه لا يمكن أنقرة في ضوء التقارب الواسع مع الرياض سوى أن تكون الى جانبها قي هذه المرحلة، ليس بهدف مواجهة السلوك الاميركي الجديد، بل لتحقيق رغبات شعوب المنطقة وتطلّعاتها في رفض السياسات الاميركية الراهنة.
أردوغان يقول إنّ تركيا ستدرس القانون وموادّه وارتداداته على السعودية من الناحية القانونية والسياسية والاقتصادية، وبعد ذلك ستجري البلدان تقييماً مشتركاً لاتّخاذ الخطوات اللازمة حيال هذا الأمر. فما هو المتوقّع والمحتمل في سياسة الرد التركي؟
إقتناع تركي يقوم على مقولة أنّ واشنطن أزعجَها التقارب الاستراتيجي التركي ـ السعودي في ملفات إقليمية مثل سوريا والعراق والسياسة الايرانية بعد التفاهم النووي مع الغرب والتمدّد في اتّجاه سوريا والعراق والخليج. وإنّ توقيت القانون وطريقة صدوره تعكس حقيقة هدف تصفية حسابات مع الرياض بسبب سياساتها ومواقفها حيال قضايا إقليمية بهدف إضعاف مركزها ومكانتها.
أنقرة ترى أنّ عوامل عدة دفعَت الإدارة الاميركية الى قرارات «جاستا»، بينها:
- محاولة استغلال فرَص الأزمات الاقليمية السياسية والأمنية والاقتصادية.
- مشاكل واشنطن المالية المرتقبة وعلى المدى الطويل.
- عجز الإدارة المالية عن الدخول في مناقشة عادلة مع الدول الصاعدة تجارياً ومالياً، مِثل الصين وماليزيا وتركيا.
- ذريعة القلق الاميركي من تفاعل الإسلام السياسي وانتشاره في العالم.
- إرتدادات «الربيع العربي» وتشعّب الثورات وإشعال نقاشات المعتدل والمتطرّف.
- الابتزاز السياسي والأمني والمالي بغطاء اقتصادي تجاري.
- إفتعال أزمات محلية وإقليمية في مسائل التطرّف والإرهاب وتقديم ذرائع ضرورة الرد عليها والتصدّي لها تحت غطاء إطلاق معايير قانونية بديلة.
- محاولة تحويل أنظار المواطن الاميركي الى أماكن وأمور أخرى بعيداً من دور واشنطن في إشعال الأزمات والحروب.
إقتناع تركي آخر، هو أنّ قلّةً هُم اليوم في واشنطن الذين يناقشون ارتدادت هذه الخطوة السلبية عليها على المستوى الاقليمي، لكن أنقرة لا يمكنها السكوت والبقاء بعيداً من امتحان سياسي قانوني أخلاقي من هذا النوع، خصوصاً عندما يَستهدف الدول والحكومات والأنظمة السياسية العربية والإسلامية على هذا النحو.
في قانون «جاستا» كان أوباما يفتح الطريق أمام إقراره ثمّ يعود ويعترض عليه وهو يعرف أنّه سيفشل في ذلك لأنه لم يكن يريد النجاح في تعطيله، وهذا ما حدث.
هناك استدارة في السياسة الأميركية وبما يتناسب مع إيقاع المصالح الأميركية مع دول المنطقة وفي مقدّمها إيران والسعودية وتركيا، وسط تبادُل للأدوار بين المؤسسات الرسمية الاميركية وعلى رأسها البيت الابيض والكونغرس وجهاز الاستخبارات.
قانون «جاستا» لا يمكن اعتباره خطوة أميركية قانونية تحقّق رغبة المواطن الاميركي وحسب، بل هو استهداف مباشر لمن يبتعد عن واشنطن وسياساتها ويعترض عليها. ردّ الجميل الاميركي للرياض بعد عقود من الشراكة لا يمكن أن يكون بهذا الشكل، وهو في كلّ الحالات اختبار مهم لمقاييس الصداقة الأميركية.
مواجهة قانون «جاستا» لا بد من أن تكون بالثقل والمستوى نفسيهما، ولا بد من أن تشمل خططاً اقتصادية عاجلة بينها سحبُ الأموال العربية والإسلامية من الأسواق الاستثمارية الأميركية في إطار المعاملة بالمِثل.
الخطوة الاميركية تشَرّع الابواب امام الحكومات لمساءلة واشنطن عن أكثر من عملية تدخّل واحتلال وقرصَنة واختطاف وإنشاء تجمّعات ومعتقلات بعد أسرِ وسَجن العشرات من مواطني دول مثل العراق والصومال وباكستان وأفغانستان ولبنان. وإقامة دعاوى بقوانين مماثلة لمساءلة الإدارة الاميركية عن حالات مشابهة في أكثر من بقعة جغرافية لا بدّ من أن تكون في مقدّم الخيارات.
قال أردوغان إنّ التنسيق مع السعودية مستمر دائماً وبنحوٍ مكثَّف خلال الفترة الأخيرة، وإنّ «تركيا ستقف الى جانب السعودية من خلال إجراءات قانونية، كما ستدرس مع السعودية الردّ المناسب على هذا القانون الذي يخالف المنطق، فكيف تحاسب دول على جرائم أشخاص».
المستهدف الأوّل في هذا القانون بالمقياس التركي للأمور هو السعودية وما تمتلكه من أرصدة واستثمارات في الولايات المتحدة، وستكون هناك مئات القضايا المقدّمة للمحاكم الأميركية ضد السعودية كحكومة وأفراد. لذلك يُفهم من مواقف القيادات السياسية التركية أنّها تريد أن تكون الى جانب الرياض في هذا التحدّي والرد على قانون يَحمل طابع الاستفزاز والهيمنة.
كشفَ وزير التنمية التركي، لطفي علوان، أنّ تركيا والسعودية تدرسان خطوات عملية لمواجهة قانون «جاستا» من خلال منظمة التعاون الإسلامي، وأيضاً مع الدول الأوروبية الحليفة، مبيّناً أنّ وزارتي الخارجية والعدل في تركيا تعدّان دراسة شاملة حول هذا القانون، وستعلنان عنها فور الانتهاء منها.
وأردوغان قال أمام البرلمان التركي إنّ الولايات المتحدة الاميركية أخطأت بإقرار قانون «جاستا»، وهذا الموقف قد يتحوّل تصعيداً ومواجهة تركية ـ أميركية، خصوصاً إذا ما قرّرت الحكومة التركية الرد عبر قانون مماثل ضد واشنطن التي تتّهمها تركيا بأنّها تحمي جماعات فتح الله غولن الانقلابية وتستضيفها، ثمّ خطوةً إقليمية أوسع هذه المرّة من خلال قيادة حملة اتّخاذ إجراءات عاجلة بصفته رئيساً لدورة منظمة التعاون الإسلامي الحاليّة من أجل دعم السعودية في الوصول إلى ما تريد.
واشنطن، إمّا أنّها لا تعرف حجم الأضرار التي ستلحق بمسار علاقاتها مع كثير من الدول، وإمّا أنّها تعرف ذلك وتريده. ولهذا هي أقدمت على خطوة من هذا النوع، والاقتناع في تركيا هو أنّها تعرف ذلك، وأنّ ما يجري هو متعمّد مدروس ومقصود.
«جاستا» صورة تعكس المشهد الجديد في نظم العلاقات الدولية باسمِ الشركات العالمية الكبرى العابرة للحدود المؤتمَنة على الاقتصاد الأميركي وبنيته المالية بعيداً من المفاهيم الكلاسيكية في أسُس القانون الدولي المتعارف عليها في مسائل السيادة.
«جاستا» يطرح نظاماً أخلاقياً ونفعياً جديداً باسمِ الشركات العالمية وأصحاب رؤوس الأموال في ساحات اللعب، يغيّر القواعد قبل انطلاق المنافسة ثمّ يغيّرها مرّة أُخرى أثناء المنافسة إذا ما شعرَ بأنه سيُهزَم، لكن أخطر ما يفعله هو لجوءُه إلى استخدام القوّة لفرض النتيجة على الفريق الخصم لإعلان فوزه.
مع «جاستا» يتراجع حديث العقل والمنطق لمصلحة لغة المصالح الاقتصادية والمالية، ولا يكفي أن تتحرك اللوبيات على أساس قوّتها المالية هي، بل تدّعي أنّ أموال الآخرين أيضاً هي تحت رحمتها وتأثيرها، وهي سابقة قانونية وسياسية وأخلاقية خطيرة. هل خطة الرد ستكون بالأسلوب والطريقة نفسَيهما؟ أم أنّ الانسحاب المالي سيكفي لإيصال الرسالة إلى مركز القرار الأميركي؟