في الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي سميت بانتفاضة القدس، شهدت القدس العربية المحتلة عملية نوعية وبطولية ضد الجنود والمستوطنين الصهاينة، نفذها فدائي فلسطيني يناهز من العمر 40 عاما، كان من المفترض به أن يذهب في يوم تنفيذه العملية إلى مركز الأمن الصهيوني لمراجعته بشكل دوري، لا سيما وأنه أسير محرر من سجون الاحتلال، لكنه قرر تغيير مساره باتجاه آخر أراده نهاية بطولية استشهادية لحياته، يفتخر بها كل فلسطيني وعربي تواق إلى مقاومة الاحتلال، ورد الاعتبار لكرامة وشرف الأمة العربية وعزتها، والدفاع عن عروبة فلسطين وفي قلبها القدس، بما تحمله من رمزية عربية وإسلامية ومسيحية تتعرض لأشرس عدوان صهيوني، استيطاني تهويدي وإرهابي عنصري، يستهدف محاولة محو تاريخها وحاضرها، وتغيير وتزوير هويتها الحقيقية الأصيلة، وهدم مقدساتها، وفي المقدمة المسجد الأقصى لبناء «الهيكل» المزعوم مكانه.

فالعملية التي نفذها المقدسي مصباح أبو صبيح أسفرت عن مقتل صهيونيين، أحدهما جندي في قوات النخبة، وجرح ثمانية آخرين، جاءت في توقيتها لتتزامن مع مناسبة حلول عام على تفجير شباب وشابات فلسطين انتفاضتهم التي انطلقت من القدس، الأمر الذي أدى إلى تحقيق العملية جملة من النتائج والتأكيد على عدد من الدلالات الهامة، في هذا الزمن من الصراع المستمر مع المحتل الصهيوني.

وبالتوقف عند النتائج، التي أسفرت عنها العملية، يمكن تسجيل النتائج التالية:

النتيجة الأولى: إن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، انتفاضة السكاكين والطعن والدهس، إنما هي انتفاضة حية ومستمرة وتتطور باستمرار ولم تهن أو تضعف، ولم تتوقف كما راهن قادة أمن الاحتلال واعتقد البعض مما يواصلون الرهان الخائب والمذل على المفاوضات والتوصل إلى «تسوية» مع العدو الصهيوني، وأن عملية القدس جاءت لتحمل في مضمونها وطريقة تنفيذها سمات جديدة من التطور في أداء الانتفاضة، فالشهيد أبو صبيح نفذ عمليته وهو يقود سيارته بواسطة بندقية اطلق بواسطتها النار على الجنود والمستوطنين في مكانين حيويين وحساسين من القدس هما: مركز شرطة للاحتلال ومحطة للقطارات، وهذين الموقعين في قلب القدس يفترض انهما يحظيان بحماية وإجراءات أمنية مشددة واستثنائية.

النتيجة الثانية:أدت العملية إلى توجيه ضربة موجعة وقوية لكيان الاحتلال، فهي كشفت عجزه وعدم قدرة إجراءاته الأمنية على منع شبان الانتفاضة من تنفيذ عملياتهم، حتى في ذروة استنفار قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية، وفي اللحظة التي كان يتوقع فيها حصول عمليات في ذكرى تفجر الانتفاضة.

النتيجة الثالثة: إبقاء كيان الاحتلال، جنوداً ومستوطنين في حالة حرب استنزاف وعدم استقرار، والشعور المستمر بالخوف والقلق على حياتهم، فعمليات الانتفاضة أدت وتؤدي إلى بث أجواء الرعب وسط الجنود والمستوطنين الصهاينة، وجعلهم ينتابهم شعور دائم بانعدام الأمان، أينما كانوا، وأن وجودهم في أرض فلسطين واستمرارهم بالاعتداء على الشعب الفلسطيني وسرقه أرضه وحقوقه، سيكون في خطر دائم، وهم معرضون في أي لحظة لهجمات الشباب الفلسطيني المنتفض.

هذا الواقع الذي يعيش فيه المحتلون الصهاينة اعترف به يوسي أدري، أحد ضباط الأمن في المجلس المحلي للمستوطنات الصهيونية في جنوب الخليل، حيث قال للقناة العاشرة في التليفزيون الاسرائيلي: «في هذه الفترة الناس خائفون كثيراً.. الأرض في جنوب الخليل اشتعلت في هذه السنة العبرية المنصرمة، فبحسب معطيات (نفذ) في هذه السنة 123 (هجوم) طعن و27 (هجوم) دهس و25 (عملية) اطلاق نار و4 (هجمات) حوادث طرق، وتفجير باص.. عدد القتلى يرسو على 40 قتيلا و458 جريحاً بينهم 42 كانت اصاباتهم بالغة..».

أما على صعيد الدلالات: يمكن القول أن عملية القدس أكدت الدلالات التالية:

أثبتت قدرة الشباب الفلسطيني على مواصلة تنفيذ عمليات متنوعة وعلى فترات متقطعة، لكن بوتيرة متواصلة، وبالتالي امتلاك ارادة قوية وإصرار على الاستمرار بالانتفاضة والمقاومة، ورفض الاستكانة والاستسلام لواقع الاحتلال وسياساته الهادفة إلى فرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني، واستطراداً عدم الرضوخ لسياسات التطبيع مع الاحتلال، أو القبول بالاتفاقيات الأمنية الموقعة معه، والتي لم تنجح إلا في توفير الغطاء لاستمرار الاحتلال في هجومه الاستيطاني وسرقته لأراضي الفلسطينيين.

إن الهجوم الفدائي في قلب القدس يدلل على مدى احتدام الصراع واشتداده، وأن الشعب الفلسطيني، بأجياله كافة لن يسلم أو يستسلم لمشيئة الاحتلال، وأنه مصمم على مقاومة المخطط الصهيوني، وهو مستعد لتقديم التضحيات دفاعاً عن عروبة فلسطين وعاصمتها القدس ولن يقبل عنها بديلا.

لقد أثبت الشعب الفلسطيني أنه قادر على مواصلة انتفاضته ومقاومته بالاعتماد على طاقاته وقدراته الذاتية، حتى أنه لم ينتظر وحدة الفصائل الفلسطينية واتفاقهم على استراتيجية وطنية، أو نضوجاً للظروف العربية، وهو بذلك يؤكد أن المقاومة والانتفاضة إنما هي رد طبيعي على واقع الاحتلال وإرهابه وتعسفه، وأن هذه الظروف كافية لاطلاق المقاومة والانتفاضة، واستمرارها وأن تخلف البعض، فالشعب الفلسطيني لا يتنظر قراراً للدفاع عن أرضه ومقدساته، والمقاومة لا تحتاج، في مثل هذا الوضع، إلى إذن من أحد، لأنها تعبير عن إرادة شعبية، وهذا ما يفسر عجز الاحتلال عن ايقافها، وخشيته الدائمة من تصاعدها وتوقعه اياماً ساخنة جراء ذلك.