عسى ولعلّ منسوب التفاؤل المرتفع بقرب إنهاء الشغور المخزي في الموقع الأول في الدولة يُترجم انتخاباً في 31 من الجاري. عسى ولعلّ يصبح لبنان على رئيس، بعد ليلٍ طويل لم يخل من الكوابيس. عسى ولعلّ يعود للدولة رأسها، بعدما كثرت الرؤوس وتضخّم بعضها...
غدا، عندما تُطوى صفحة التهاني وتُفتح صفحات التحديات المختلفة، المزمنة والمؤجّلة منها كما المستحدثة الطارئة، سيكون على اللبنانيين جميعاً، موالين مبتهجين ومعارضين منزعجين، أن يواجهوا مصيراً واحداً. فالملفات العالقة لن تميّز بينهم. والأخطار المحدقة بالأمن والاقتصاد لن تحيّد أيا منهم تبعاً لارتباطه بالسلطة أو بعده عنها. غداً، بعد الانتخاب الرئاسي المفصلي، سيكون على الجميع أن يقبلوا بشركة المصير بعدما رفض كثرٌ الشركة بمعناها الأوسع. هو انتخاب مفصلي لأنه يحمل تحريكاً للآليات الدستورية ولأنه ينهي مراوحةً قاتلة في السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع. لذلك، فإن ما بعد، بعد الانتخاب يحتّم مقاربات غير تقليدية ويطرح ضرورة رسم خريطة طريق، بعيداً السلال ومضمونها الخفي. خريطة طريق تحاول الإجابة عن أسئلةٍ هي بحجم المخاطر والتحديات، تحاكي الناس في انتظاراتها والمأمول. ما بعد، بعد الانتخاب، من المفترض، مثلاً، أن تنقشع الضبابية التي تكتنف أبرز الملفات وأكثرها أهمية، لأن دينامية جديدة ترافق دوماً العهود في انطلاقاتها.
خريطة الطريق هذه ليست مسؤولية الرئيس العتيد وحده. هي جهد مشترك، بل مسؤولية مشتركة. الانتحار هنا ليس قدرا.
ولأن الاستحقاق طال وطالت معه الأزمات وتعاظمت في الشغور تداعياتها، فإن من حق اللبنانيين واللبنانيات أن يحلموا اليوم، عشية الانتخاب وقبله وفيه وبعده، بخريطة طريق لمستقبلهم، تقارب الآتي وتحاكي العقل قبل العاطفة، في مسارات قد تكون أبرزها:
1 - في مسار الدولة عموماً: كيف ننتقل من تهمة الدولة "الفاشلة" (failed state) إلى حيّز بناء الدولة بكفاياتها العالية وإمكاناتها العديدة المعطّلة؟ هل تكون لنا موازنة بعد قطع حساب بعد السنوات الاثنين عشرة الاخيرة؟ هل يستقيم التشريع بوتيرةٍ مقبولة؟ هل ينتظم عمل المؤسسات الدستورية بموجب "الكتاب"؟ وهل تنشط المضادات الحيوية ضد الفساد؟
2 - في مسار القانون الانتخابي: حيث المعضلة في الخيار السياسي، لا في التقنيات، هل من أمل في إدارة حسنى للتنوّع ضمن الوحدة؟ ومتى يُقرّ الموعود كي يتم تحديد موعد الاختيار المؤجّل؟
3 - في مسار السياسة الخارجية: بين حيادٍ إشكالي بالنظر إلى المحاور ونأي بالنفس لم يدم، كيف السبيل إلى حماية لبنان في ظل جنون المنطقة ولهيبها؟
4 - في المسار الأمني: حيث الجيش والقوى الأمنية في أعلى درجات الجهوزية والإنجاز، أي خريطة طريق في ظلّ إرهاب عابر للحدود وتحديات كبرى ضمن الحدود؟
5 - في المسار الاقتصادي والاجتماعي: حيث التحديات بحجم دين عام وديون خاصة ودواوين الحل والربط، هذا المسار يتقاطع تماماً مع المسارات السياسية وحبّذا لو كان له ما لها.
6 - في مسارات إصلاحية أخرى: كمجلس الشيوخ واللامركزية الموسّعة، المؤجّلة منذ عقود، على رغم أنها تشكّل آليات عملية لمخارج الأزمة، هل تكون جزءا من سلّة الإصلاح، لا مجرّد التسوية؟
هذه بعض مسارات خريطة الطريق. الأسئلة التي تثيرها هي برسم القوى السياسية على اختلاف تحالفاتها. غالب الظن تأجيل الأجوبة، أو، ربما، إلقاء الأسئلة على مواطنين يطرحونها ومجتمع تُشغله، في حين أن الأجوبة المطلوبة هي في صلب مسؤوليات من وُلّي الأحكام، وعلى الطبقة السياسية أن تقدّم الشروحات والأفكار، لا التبريرات...
غدا، ما بعد، بعد الانتخاب، سيسلك لبنان وأبناؤه وبناته مسارات تلك الخريطة، إن وجدت. وإلاّ ضاع القطيع في مسالك مظلمة وضاع العنوان. في زمن الخرائط المبعثرة في المنطقة رسماً وترسيماً، تبقى خريطة الطريق المصنوعة في لبنان الضامنة الأولى لما بعد، بعد الانتخاب، ولتُنشر ولتعمّم ولتُناقش ولتُعدّل... هكذا تكون المسارات في خدمة المصير، وهو مشترك...
* وزير الداخلية السابق