"جئنا الليلة نشكر السيد حسن نصر الله على مساعدتنا في حل المشكلة التي كانت مستعصية في انتخاب رئيس الجمهورية، ودائماً كنا نجد كل مساعدة وكل تسامح في القضايا الوطنية".. هذا ما أدلى به العماد ميشال عون بعد خروجه ليلة الأحد من زيارة للسيد نصرالله، التي يمكن اعتبارها زيارة الواجب الكبير في الزمن الصعب، من أقوى رجل مسيحي في سائر المشرق، إلى أقوى رجل مسلم في الشرق والغرب، بعدما افتقد المسيحيون في لبنان هيبةً وسلطة كانت في الزمان لدى بعض بطاركتهم الكبار، أمثال الحويك، ووجدوا في عباءة السيد نصرالله أماناً لم يعرفوه عبر تاريخهم في عباءة أي بطريرك، لاسيما أن انتخاب المسيحي القوي ميشال عون يأتي في أضعف زمن يعيشه المسيحيون في لبنان وسائر المشرق.
المؤسف أن يجد السيد نصرالله نفسه ملزَماً بتأكيد مصداقيته للآخرين، عبر الاستعداد لانتخاب العماد عون بورقة مكشوفة، يُبرزها نواب "كتلة الوفاء للمقاومة" أمام الكاميرات، نتيجة وصول الأمور في التعاطي السياسي والإعلامي لدى البعض إلى مستوى المسّ بتحالفات وطنية استراتيجية، لتحقيق غايات شخصية رخيصة، رغم أن هذا البعض يدرك أن مقولة "إميل لحود هو آخر رئيس مسيحي في لبنان" ما زال المسيحيون يعيشون هاجسها حتى اليوم، وقيل بعدها إن انتخاب ميشال سليمان بعد مؤتمر الدوحة مجرد "فلتة شوط" وليس أكثر.
قبل أيام من مبادرة الرئيس سعد الحريري وإعلانه رسمياً تأييد ترشيح العماد عون، أطلّ السيد نصر الله ليلة العاشر من محرم، وتحديداً ليلة 11 تشرين الأول/ أكتوبر، وكاد "يسقينا بالملعقة" خبر الانتخاب الحتمي والقريب للعماد عون رئيساً، وقال سماحته: "نحن أهل الصدق، ونحن أهل الوفاء، ونحن أهل الالتزام بالموقف، هكذا كنا وهكذا نبقى، لا يتغير عندنا شيء.. لكن هل نستطيع أن ننتخب العماد ميشال عون رئيساً قبل إعلان رئيس "تيار المستقبل" لهذا الترشيح؟ هذا كله كلام ليس له معنى.. دعونا نخرج من هذه الألاعيب الصبيانية والصراعات الجانبية وتسجيل النقاط على بعضنا البعض، من يريد ومن لا يريد، إن غداً لناظره قريب، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يهان".
لكن أن يخاطب سماحة السيد نصرالله فئة من جمهور "التيار الوطني الحر"، انساقت خلف الإشاعات، فلأن الرجل يسبق الجميع دائماً في رؤيته الأمور واستيعابها بحكمة مذهلة، وليس غريباً عمن استبق رؤية نار الشرق وامتداداتها في هشيم النزاعات الدولية والإقليمية، أن يحتضن منذ البداية أقلية حضارية من منطلق فكره الإنساني الواسع، وإيمانه الشمولي العظيم بقدسية الإنسان، بدليل أن كنائس حلب والموصل تُعطَى الأولوية بسرعة رفع وقرع أجراسها فور تحريرها من الإرهابيين، ويتولى عناصر الجيشين السوري والعراقي وخلفهما الحلفاء والعشائر الإسلامية السُّنية والشيعية قرع الأجراس، قبل ترميم المساجد والأضرحة الإسلامية، وهي الثقافة العظيمة التي اعتمدتها في البداية المقاومة الإسلامية في معلولا وسواها من البلدات السورية التي كان حزب الله مشاركاً في تحريرها مع الجيش السوري.
أجراس الأمل لمسيحيي المشرق تُقرع، وفوز المسيحي القوي ميشال عون نصر مشترك مع حسن نصرالله وكل المسلمين الشرفاء المؤمنين بالقيم المشترَكة، ولم يعد يفصلنا سوى بضعة أيام عن نهاية جلجلة العصر، والباقي تفاصيل تدخل ضمن التكتيك السياسي والانتخابي، لكن استراتيجية إعادة الاعتبار للوجود المسيحي كشريك أساسي في الشرق تسير بشكل طبيعي، وإعلان تكفير "داعش" وأخواتها والتبرؤ منها قد حسم من السُّنة والشيعة معاً، بصرف النظر عن بعض الزمر التي تستخدم المذهبية الحاقدة للاستمرار عبر تأجيج العصبيات، حتى لو اقتضى الأمر رفع الأعلام التركية في أزقّة طرابلس.
دولياً، لم يعد ميشال عون مشكلة لأميركا كحليف لحزب الله، بعد أن نال وزيرا خارجية أميركا وإيران كيري وظريف منذ يومين جائزة عالمية مشتركة لإنجازهما الاتفاق النووي، وبعد أن بات قانون "جاستا" ساقطاً وغير ذي جدوى في تأديب الآخرين ظلماً.
روسيا تُبدي تعاطفاً مع لبنان المقاوم على الدوام، وفرنسا التي تضع طائراتها وبوارجها بتصرّف حلف الناتو "غب الطلب" أينما طلب منها المشاركة، يحق لها الحصة الأكبر في الملف اللبناني، خصوصاً أنها الأقل تشدداً بالنسبة لحزب الله، وهي رغم ضعف شعبية الرئيس هولاند، استطاعت الحصول على موافقة حلفائها الأميركيين والأوروبيين لتطلق يدها في مبادرة انتخاب الرئيس المسيحي الأوحد في الشرق.
أما إقليمياً وعربياً، فلم يعد ابتزاز لبنان عبر تأجيل ملفه الرئاسي مجدياً، وسط التطورات التي تؤشر إلى انتصار محور المقاومة، خصوصاً في سورية والعراق، وفوز مرشح من "8 آذار" بات أمراً واقعاً، بعد أن انتفت إمكانية انتخاب آخر من "14 آذار".
داخلياً، ومع استمرار النائب فرنجية في ترشيح نفسه، فإن هذه المسألة لا تتعدى حدود "حفظ ماء الوجه" الشخصي، وشكلية انتخابية لن تؤثر على النتائج، والنائب جنبلاط منذ البداية لديه حساباته الشعبية المسيحية في الجبل، وكان أول من أقرّ بضرورة تتويج مصالحة معراب بانتخاب عون، مادام المسيحيون اتفقوا على مرشحهم، والرئيس الحريري نال "عفواً" عن إساءاته بحق المقاومة وسُلِّم مفتاح السراي تسهيلاً لانتخاب عون، والرئيس بري ليس يطلب في السلة أكثر من حقوقه الطبيعية، والسيد نصرالله كفيل بتذليل العقبات الحوارية بين بري والحريري، وبين بري وعون، والأمور سائرة إلى تحقيق حلم الأمان الوجودي لمسيحيي المشرق، والشرق الغارق في التكفير والتهجير والاضطهاد والتغيير الديمغرافي سيشهد فيه مسيحيو لبنان وسائر المشرق، وبفضل المسلمين، نهاية الجلجلة ومسيرة الآلام.