يوم صار ميشال سليمان رئيساً للجمهورية على قاعدة «الحيادية الافتراضية»، التي تغلّبت يومها على منطق وصول المستحِق الى سدة الرئاسة، تزاحمت التساؤلات في أذهان مناضلين كُثر لطالما اعتقدوا أن الحلم ممكن. إذا بانتخاب سليمان رئيساً يعيدهم الى قعر الإحباط وهم يشاهدون أحلامهم تتهاوى من جديد.
ومع ذلك، لم يفقد هؤلاء الأمل. يومها كتبت مقالة نشرت في 2/6/2008 قلت فيها إنّنا لن نسمح بأن يكون وطننا مقبرة للأحلام، وإن جيلنا لن يقبل بأن يُسرق منه الحلم، حلم التخلّص من الطبقة الفاسدة، حلم التغيير، ودولة المؤسسات، حلم لبنان القوي القادر.
اليوم، صار الحلم قاب قوسين أو أدنى من التحقق. تملأني بعض الأفكار التفاؤلية من دون أن تهجرني الهواجس، فتتصارع الأحلام ومشاعر الخشية. مزيج من نشوة الانتصار وكثير من الخوف. الخوف من خسارة آخر الفرص. نحن الذين ناضلنا لأجل لبنان سيد حر مستقل، حققنا الانسحاب السوري الذي اعتبرناه مدخلاً لبناء الدولة، ولم نبنِ الدولة. ضاعت فرصة عام 2005، وأعيد إنتاج السلطة نفسها والنظام نفسه. تحالف المتخاصمون في حلف رباعي ليس لشيء أكثر من الإبقاء على سلطة تقاسم مقدرات الدولة، وبقي الحلم واستمر الأمل بدفع من تسونامي الاراده الشعبية التي قالت كلمتها يومها.
دخلنا إلى السلطة، إلى مجالسها التشريعية والتنفيذية. أضعنا فرصاً ثمينة للتغيير واكتفينا بما تيسَّر. بقي الحلم بعيد المنال واستمر النضال. نضال من نوع آخر، قد يكون أصعب وأشد إيلاماً من احتلال معالمه واضحة. نضال كشف لنا أن الاحتلال لم يكن سوى الحجر الأول، وأن خلفه جبالاً تفصلنا عن ذلك الحلم البعيد المنال.
مجدداً، ها نحن اليوم، وقد أثبتنا رغم كل شيء أن الحق لا يضيع، إن كان وراءه مطالب. ها هو العماد ميشال عون يعود إلى قصر الشعب الذي خرج منه تحت القصف في ذلك الصباح الأسود، وها نحن أمام فرصة ذهبية ليست سوى حجر آخر ندحرجه لنبدأ المعركة الأصعب من هنا.
لم تكن الرئاسة بذاتها يوماً الهدف، بل هي الجمهورية. لذا، إن المرحلة المقبلة تفرض علينا العمل بمسؤولية بالغة. كيف ذلك؟ كيف نبني على هذه الفرصة؟ كيف نعمل على تحويل هذا الاستحقاق الى خطوة على درب تحقيق الحلم النهائي؟ كيف نحولها الى مشروع متكامل نتشارك فيه مع الآخرين لنطلق نهجاً نورثه للأجيال القادمة؟ هذا هو التحدي الكبير اليوم كي لا تضيع البوصلة من جديد كما حصل منذ عام 1943.
مفهومٌ أن تغيير النظام ودستوره وقوانينه صعب المنال في يومنا الحاضر، ومفهوم أيضاً أننا مكبّلون بإرث يصعب التخلص منه، أو الاستقلال عنه في معاركنا السياسية، إلا أن الثابت هنا أن مقولة تأسيس دولة القانون والمؤسسات تبدأ بعناوين لا جدال عليها، ولا لبس فيها. عناوين تتطلع آمال الناس اليها بألم كبير ورجاء أكبر.
كما أثبتت التجارب والدراسات التي عاينت علاقة الثقة بين الرأي العام والسلطة السياسية، ستكون المئة يوم الأولى مصيرية في هذه العلاقة الجدلية. مئة يوم، إما نعيد ما فقدناه من ثقة الرأي العام بمشروعنا السياسي، وإما نضيّع كل شيء. مئة يوم على كل عامل بيننا أن يسهم في خلق الديناميكية المطلوبة لمساعدة الرئيس على الانطلاق بقوة وثبات في العهد الجديد. أملاً بأن يكون فريق العمل الرئاسي، وقياديّو التيار الوطني الحر، منكبين على العمل لتحديد العناوين الثابتة، وعلى صياغة خطة عمل ممنهجة وقابلة للتحقيق، لا بد من أن نعدد بعضاً من هذه العناوين واعتبارها أولوية:
أولاً: العمل على إقرار قانون انتخابي عصري وحديث يؤمن التمثيل الصحيح ويسمح بإنتاج مجلس نيابي خارج الاصطاف التقليدي.
ثانياً: تفعيل المؤسسات وعمل مجالس الرقابة والتفتيش المالي والإداري وتسليحها بقوانين جديدة تسهم في محارية الفساد بكل وجوهه.
ثالثاً: العمل على إصلاح إداري يبدأ بتفعيل دور مجلس الخدمة المدنية وإبعاد التدخلات عنه.
رابعاً: العمل على إحداث نقلة نوعية في كيفية مقاربة حق المواطنين الاساسي في العيش الكريم، من خلال إقرار سياسة صحية مستدامة مبنية على الكشف المبكر للأمراض، وبتطوير قانون الضمان الاجتماعي وضمان الشيخوخة، وذلك بناءً على الفصل بين الصندوقين لمزيد من الفاعلية والشفافية.
خامساً: إعادة النظر في قانون الإيجارات ليكون عادلاً بحق المستأجر والمالك، على أن لا يؤدي إلى إفراغ المدن الكبرى من أهلها.
هذه العناوين التي تمثل أولويات العيش الكريم للمواطن اللبناني، لا يمكن لها أن تتحقق من دون تضافر كل القوى المؤمنة بدولة القانون والمؤسسات، مهما اختلفت هذه القوى في انتمائها السياسي أو الطائفي.
أما تلك الأكثرية الصامتة، التي خرجت مجموعات منها عن صمتها يوم غرق اللبنانيون في نفاياتهم، إلى تلك الاكثرية التي لازمت منازلها خوفاً، أو استسلاماً، أو استزلاماً، أو يأساً، فهي اليوم مطالبة بالعمل، العمل معاً، حزبيين ومؤيدين، يميناً أو يساراً، معارضين وموالين، كي نحوّل هذه الفرصة إلى واقع أفضل لأجل حياة كريمة لنا وللأجيال اللاحقة، ولكي يذكر التاريخ يوماً أن عهداً بدأ بعد أكثر من ربع قرن على انتهاء الحرب اللبنانية، تحول اللبنانيون فيه إلى قوة فاعلة، ليعود لبنان وطنهم وتعود بيروت مدينتهم كما يريدونها فعلاً أن تكون.
هذا هو الحلم الكبير، فقدنا بعضاً من رومنسيتنا لندرك أن تحقيقه قد لا يكتمل في المدى القريب، وإن كان إيماننا لا يزال ثابتاً.
منهم من قال إن العماد ميشال عون هو حالة شعبية رومنسية لا يحدها إطار حزبي، ومنهم من قال إنه صاحب رؤية وإرادة وبصمة ستكون بوصلتهم اللاحقة في التغيير، ومنهم من قال فيه إنه سيترك إرثه لحزب قد ينجح وقد لا ينجح في الحياة السياسية. منهم من شبّهه بفؤاد شهاب، ومنهم من شبّهه بكميل شمعون، ومنهم من قال إنه سيلتحق بلائحة الرؤساء التقليديين.
يبقى ميشال عون هو اليوم الفرصة، فرصة لتحقيق بعض أحلامه وأحلامنا، مشاريعه ومشاريعنا، لبناء دولة العدالة الاجتماعية التي لا تحصر نفسها بحزب أو بمذهب.
مع وصول الرئاسة لمستحقها، نأمل جميعاً أن ننهض بلبنان، لأن الشعب اللبناني يستحق أيضاً أن تثمر نضالاته حياة كريمة.
* قيادي سابق في التيار الوطني الحر