لا يهم إن كان الصاروخ الذي أطلقه الحوثيون قد تم اعتراضه أم لا، لأن تأثيراته النفسية والمعنوية تفوق بكثير حجم تدميره، بل إنه يعمق جراح هيبة سلاح الجو ويفتح المجال أمام الدول الفقيرة لأخذ العبر، وتخطي عقبة ضعف الإمكانات المالية، والحظر المفروض على تصدير الأجيال الحديثة من الطائرات الحربية، أو المنظومات المضادة لها.
التجربة العراقية
أولى التجارب الحديثة التي فتحت العيون على أهمية سلاح الصواريخ، كانت تجربة قصف الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لإسرائيل أثناء حرب الخليج الثانية سنة 1991 بعد اجتياحه للكويت. فبعد خروج سلاح الجو العراقي من المعركة مبكراً نظراً لتخلفه بأشواط عن سلاح الجو الأميركي، وعلى الرغم من وجود بطاريات صواريخ باتريوت في كل من السعودية وفلسطين، لم تنجح هذه الصواريخ الدفاعية في منع صواريخ سكود من ضرب العمق الإسرائيلي حيث تم قصف اسرائيل بـ40 صاروخ، والسعودية بـ46 صاروخ على مدى ايام الحرب. ولم ينجُ الأميركيون من هذه الصواريخ حيث أصاب أحدها قاعدة عسكرية اميركية في الظهران ما أدّى لمقتل 28 عسكري اميركي وجرح 100 آخرين.
وبالرغم من تكثيف الغارات الجوية لم يتوقف رمي الصواريخ، وأصبح تدميرها على رأس لائحة معاهدة استسلام الجيش العراقي، وبالفعل أجبر النظام العراقي على تسليم الصواريخ وتدميرها بإشراف دولي.
التجربة في حرب 2006
ثاني التجارب التي أرست معادلة الصاروخ مقابل الطائرة، هي حرب تموز 2006، فبفعل السرية الشديدة التي كانت معتمدة في الشؤون العسكرية لحزب الله، والفصل التام بين الأجنحة والإختصاصات العسكرية، بحيث لا يعرف سلاح المشاة مثلاً، شيئاً عن تموضعات ومخازن سلاح الإسناد الناري، ولا سلاح الدفاع الجوي شيئاً عن سلاح الصواريخ الذي تم فصله عن باقي الجسم العسكري تماما، ونوعية الصواريخ التي استعملت أو كشف عنها لاحقاً شكلت مفاجأة لعناصر الحزب كما شكلت مفاجأة للعدو.
ومما ساهم في إحباط معنويات العدو مبكراً مسارعته بعد ثلاثة أيّام من بدء الحرب إلى إعلان أنه تمكن من تدمير صواريخ "حزب الله" البعيدة المدى والمتوسطة، ولم يكن الحزب قد بدأ بتوسيع دائرة الإستهداف بعد، فأتت مفاجأة قصف الخضيرة، وحيفا وما بعد حيفا، وهدّد بقصف تل أبيب، وتبين بعد الحرب أنه كان قادراً على ذلك.
العبرة في حرب الصواريخ هذه أن سلاح الجو كان قد استنفذ أهدافه، وطائرات الإستطلاع لم تبارح الأجواء على مدار الساعة.
وتمكنت هذه الطائرات من رصد وتدمير بعض منصات الصواريخ أثناء انطلاقها بالتتابع (يوجد عدة مشاهد بثها الجيش الإسرائيلي توثّق هذه الحالات) ولكنها حالات معدودة على الأصابع أمام الآف الصواريخ الي أطلقت بنجاح.
تجربة حرب غزة 2014
أهم درس يُستفاد منه في حرب غزة 2014، أن الصواريخ وبالإستفادة من الأرض قادرة على تعطيل تفوق سلاح الجو، فقد عملت "المقاومة الفلسطينية" وبالرغم من الحصار المطبق على قطاع غزة الذي كان مدمراً منذ الحرب عليها عام 2009، على أن تهرب وتصنع الاف الصواريخ وتخزنها في أنفاق تحت الأرض والتطور الأهم كان تحسين مدى الصواريخ بفعل التقنية الإيرانية التي سربت إليهم، ومكنتهم من صنع صواريخ ذات مدى 75 كلم، وقد استعملت بنجاح في استهداف مطار بن غوريون ومدينة ريشون عتسيون في ضواحي تل أبيب. ورغم تدمير القطاع المدمر أصلاً، بقي سلاح الصواريخ حاضراً وفعالاً، ليضع إسرائيل أمام خيار إنتحاري وحيد لإنهاء الحرب وهو إحتلال غزة مجدداً، الأمر الذي سيكلفها ثمناً باهظاً جداً في الأرواح لن تقدر على تحمله، فإختارت عدم إكمال المهمة وإنهاء الحرب.
تجربة الحرب اليمنية السعودية
تمكن سلاح الجو السعودي المتطور من تحييد سلاح الجو اليمني -السوفياتي المصدر– المتهالك من الساعات الأولى لبدء الحملة العسكرية.
ولم يكن عبثاً وصف العديد من الخبراء والمحللين الإستراتيجيين والعسكرييين، للحرب السعودية بالفخ، حيث أنه قد أصبح من المسلم به بعد تجارب الحروب التي استعرضناها آنفاً، أن سلاح الجو وحده لا يحسم معركة ولا يربح حرباً، علمًا أنّ السعوديون اعتقدوا أن الحلف الدولي الإسلامي-العربي الذي جمعوه إضافة الى المعارضين للحوثيين في الداخل اليمني، سيمكنهم من إكمال مهمة سلاح الجو من خلال السيطرة على الأرض.
وعمدت القيادة السعودية بعد مرور شهر واحد على بدء الحرب بإعلان النجاح في تدمير ترسانة الصواريخ اليمنية المهددة لأمن السعودية، واعتبرت ان الحرب انتهت واطلقت عملية "إعادة الأمل"، لتظهر التطورات اللاحقة أنهم مخطئون تماماً في هذا، بل انهم ورغم الحصار الجوي والبري والبحري المفروض على اليمن، وبعد مرور سنة ونصف على الحرب والحصار، تمكن هؤلاء الفقراء من صناعة صواريخ بعيدة المدى كصاروخ "بركان 1" الذي أطلق على مدينة جدّة.
صاروخ جدة
لا يمكن التكهن بهدف الصاروخ الحقيقي إن كان جدة أو مكة، في حال إسقاطه قبل وصوله الى هدفه لأن المدينتين كما يظهر في الخريطة هما في نفس الإتجاه تقريباً، وهذا يبدو أنه يقع في دائرة التوظيف السياسي.
خطورة الصاروخ لا تنحصر في مداه البعيد الذي يبلغ 800 كلم، ولا في رأسه التدميري البالغ 500 كلغ من المتفجرات، بل أن خطورته ستغير فلسفة الحروب والتسلح، فقد أثبت الحوثيون أنه بإمكان البلدان الفقيرة التي لا تستطيع الإنفاق على التسلّح لبلوغ التوازن مع جيرانها أو أعدائها المحتملين، أن تلجأ لإمتلاك ما تستطيع من ترسانة صاروخية تمنع أي عدو من التفكير في إستضعافها والإعتداء عليها.
وقد أصبح واضحا أن التكنولوجيا المعرفية لصناعة صواريخ "بركان 1" لم يخترعها الحوثيّون بل أتت من ايران حصراً، والبيانات التي تشير الى دور للجيش اليمني في تطوير الصواريخ محلياً لا تبدو ذات مصداقية مع وجود رايات وشعارات الحوثيين في الصور التي تظهر الصواريخ في مخابئها. وكل ما تحتاجه لحمايتها من القصف هو حفر الأنفاق تحت الأرض وفي بطون الجبال.
وفي حين نجح سلاح الجو السعودي في تدمير صواريخ سكود اليمنية في بداية الحرب، لأنها كانت في مخازن الجيش اليمني حيث لا مجال للسرية والأسرار في جيش منقسم الى محاور سياسية، فإنه سيجد صعوبة بالغة في كشف وملاحقة مخابئ الصواريخ المتحركة في بطون الجبال، وقد فشل من هو أكثر منه احترافاً في القضاء على خطر الصواريخ في قطاع غزة الذي ليس فيه لا جبل ولا حتى تلة يمكن الإختباء فيها.
كما أن إعلان قوات التحالف أنها أسقطت الصاروخ على بعد 65 كلم من مدينة مكة، يعني أنه قطع حوالي 630 كلم داخل الأراضي السعودية. وبما أن سرعة صاروخ السكود تقارب ميلاً واحدًا بالثانية، فقد تم اعتراض الصاروخ (حسب السعوديّة) قبل انفجاره بـ40 ثانية تقريبا. فلو أخطأ الصاروخ الدفاعي هدفه كما حصل مع صاروخ الظهران (1991)، هل سيكون هناك متسع من الوقت لإطلاق الصاروخ الدفاعي الثاني؟
سهولة تصنيع وامتلاك مثل هذه الأسلحة الإستراتيجية سيفرض بلا شك خلط الكثير من الأوراق في الكثير من نقاط التوتر والنزاع في العالم، ويجب أن يشكل دافعاً إضافياً لمن يملك رأياً مغايراً لعاصفة الحزم في الداخل السعودي للتحرك قبل إستفحال الدمار وصعوبة التراجع قبل فوات الأوان.