لم تكن الأحداث السورية بحاجة إلى تصريح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغر، لمعرفة أن الأيام المقبلة ستكون صعبة جداً، نظراً إلى إحتدام التنافس بين مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين، الذي ظهر بداية عبر ترك الأبواب مفتوحة أمام عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي للإنتقال من سوريا إلى العراق، خلال معركة تحرير مدينة الموصل، ومن ثم عبر إعادة الفصائل المعارضة السورية، في الأيام الأخيرة، تحريك جبهات مدينة حلب من جديد، بالتزامن مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نية بلاده توسيع رقعة عمليات "درع الفرات" لتشمل كلاً من مدينتي الباب ومنبج.
هذا الواقع، الذي عبر عنه شويغر بالحديث عن أن عودة السوريين إلى الحياة السلمية ستؤجل إلى أجل غير مسمى، لا ينفصل عن المسار الذي سلكته المفاوضات مع الجانب الأميركي، حيث سعت موسكو قبل أشهر إلى الوصول إلى هدنة في حلب، سقطت على ضوء عدم قدرة واشنطن على فرضها على حلفائها، بالإضافة إلى عدم إلتزامها بالفصل بين جبهة "النصرة" والفصائل "المعتدلة" بحسب التصنيف الغربي، لا سيما بعد أن وجهت طائرات التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، ضربات لمواقع الجيش السوري في دير الزور.
هذه النتيجة كانت المؤشر الأبرز على إنتصار المؤسسة العسكرية في واشنطن، الرافضة لأي تفاهم مع موسكو في الوقت الراهن، على نظيرتها الدبلوماسية، التي كانت تسعى إلى الوصول إلى إتفاق الحد الأدنى قبل نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما، الأمر الذي ترجم من خلال تصعيد لهجة الخطاب بين الجانبين، التي وصلت إلى حد إستدعاء الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي، من خلال الإعلان عن دخول "الناتو" للمرة الأولى إلى حلبة الصراع في سوريا والعراق، عبر نشره لطائرات "أواكس" الاستطلاعية، بالتزامن مع تحذير أمين عام الحلف ينس ستولتنبرغ، من أن مجموعة بحرية روسية متجهة إلى سوريا يمكن أن تستغل في استهداف المدنيين في حلب المحاصرة.
في السياق نفسه، عمدت واشنطن إلى الإعلان عن إنطلاق عملية عزل مدينة الرقة، التي تعد أبرز معاقل "داعش" في سوريا، بالتوازي مع إعلان وزيرة القوات الجوية الأميركية ديبورا لي جيمس أن سلاح الجو في بلادها يمتلك التجربة المطلوبة لإنشاء منطقة حظر جوي في سوريا، إذا تطلب الأمر ذلك، بالرغم من إداركها أن هذه الخطوات هي من الخطوط الحمراء بالنسبة إلى المحور المقابل، أي إلى موسكو وطهران ودمشق.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تنجح، حتى الساعة، في حل الخلافات بين حلفائها على الساحة السورية، خصوصاً بين تركيا والأكراد، يبدو أنها قادرة على إستغلال العديد من التناقضات، فهي تدرك أن هذا الواقع سيعرقل جهود العملية العسكرية التي تقودها موسكو، بالتعاون مع الجيش السوري، وفي الوقت نفسه لا تمانع إدخال روسيا في حرب إستنزاف طويلة مع المجموعات المتطرفة، الأمر الذي سيقود في نهاية المطاف إلى تحسين شروطها التفاوضية، نظراً إلى أن الوقائع الميدانية الحالية لا تصب في مصلحتها.
إنطلاقاً من هذه المعطيات، لم يقدم وزير الدفاع الروسي إلا على تأكيد المؤكد، فالجميع كان يعلم بأن كافة اللاعبين على الساحة السورية سيعملون على تحسين أوراقهم العسكرية في الفترة الفاصلة عن إنتخاب رئيس جديد في الولايات المتحدة، والإدارة الأميركية الحالية كانت تعد العدة إلى خليفتها، على قاعدة أنها ستقود حروب إستنزاف مع روسيا، لا سيما في حال فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، نظراً إلى أن التنافس بين الجانبين لا يقتصر فقط على الساحة السورية، لكن السؤال الأبرز يبقى عن المفاجآت التي تخبئها موسكو على هذا الصعيد، خصوصاً أن الرئيس فلاديمير بوتين لم يدخل إلى هذه الساحة للخروج منها مهزوماً، كما حصل أيام الإتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان.
من حيث المبدأ، يسعى المحور المقابل الذي تقوده روسيا إلى محاولة عرقلة الأهداف الأميركية، عبر رفع مستوى التنسيق بين الحلفاء الثلاث، الأمر الذي تمثل باللقاء الذي عقد قبل أيام بين وزراء خارجية كل من موسكو وطهران ودمشق، ويريد إغلاق الحدود السورية العراقية، عبر عملية تحرير غرب الموصل التي يتولاها "الحشد الشعبي"، بالإضافة إلى إطلاق التحذيرات إلى أنقرة من الإقتراب إلى الباب، من دون إغفال أهمية المناطق الشرقية السورية، أي الرقة ودير الزور بشكل رئيسي، بالرغم من الصعوبة التي تعتري هذه المهمة.
في المحصلة، تثبت الأحداث السورية أن الميدان العسكري لا يزال هو صاحب الكلمة الأساسية، بغض النظر عن كل التصريحات والمواقف السياسية التي توحي بالعكس، على الأقل حتى الإنتهاء من الإنتخابات الرئاسية الأميركية ومعرفة توجه الإدارة الجديدة التي ستسكن البيت الأبيض، التي قد تعود ربما إلى الخيارات الدبلوماسية من جديد.