عاش العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مرحلة الحرب الباردة بين المحورين الغربي (حلف الناتو) بقيادة أميركا، والمحور الشرقي (حلف وارسو) بقيادة الاتحاد السوفياتي، وانتهت هذه الحرب بمعركة ساخنة في أفغانستان، والتي أعقبها تفكُّك الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية وحلف وارسو في العام 1990، ووراثته من قبل روسيا.
غابت روسيا أكثر من عقدَين من الزمن لترميم اقتصادها ومنظومتها الاجتماعية والعسكرية، فاغتنمت أميركا هذه الفرصة الذهبية للسيطرة والتحكم بالعالم كقائد أوحد وحاكم يعبث كيفما شاء لحفظ مصالحه الأمنية والإقتصادية، فقام بغزو العراق، وأشعل "الربيع العربي"، وأعلن مشروعه تأسيس الشرق الأوسط الجديد أو الكبير القائم على زعزعة الأمن وتقسيم الدول إلى كيانات قومية وطائفية، على أن يبدأ المشروع في منطقة الشرق الأوسط ليتمدد إلى إيران وتركيا ثم روسيا وبعدها إلى أوروبا، عبر تفكيك الاتحاد الأوروبي من قبَل بريطانيا، ثم بث النزعة الانفصالية بين الشعوب الأوروبية، وصولاً إلى تأسيس "العالم الصغير"، بحيث تصبح الدول والكيانات على نموذج إمارات الخليج؛ محميات أميركية والحكام قائمون بالأعمال أو حُكام لولايات أميركية عالمية لتأسيس الولايات المتحدة العالمية الأميركية.
لكن الرياح العسكرية المقاومة لم تكن كما تشتهي السفن والبوارج الأميركية، حيث استطاع محور المقاومة، ابتداء عبر ثلّة من المقاومين اللبنانيين والجيش العربي السوري وإيران، أن يعرقل المشروع الأميركي، بعد نجاحه سريعاً في ليبيا ومصر وتونس، وعرقلته في اليمن عبر الجيش وحركة "أنصار الله"، وفي هذه الفترة كانت روسيا تنتهج الحياد السلبي مع خسارتها في ليبيا، نتيجة الخداع الأميركي، ولم تتجرأ موسكو على التدخُّل والمساندة للمحور المقاوم إلا بعد مضيّ ثلاث سنوات على أحداث سورية، وتدخّلت بداية بشكل خجول في مجلس الأمن عبر "الفيتو" مع الصين في بعض المرات، في الوقت الذي كان محور المقاومة يتصدى وبشكل أسطوري للمشروع الأميركي العالمي، وروسيا على منصة التفرج والمراقبة.
بعد التحرُّش الأميركي بروسيا في أوكرانيا، حيث تم إسقاط رئيس الجمهورية وأُلغيت اللغة الروسية، ومطالبة السلطة الجديدة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والخروج من الحضن الروسي، كمقدمة للانضمام إلى حلف "الناتو"، دُفعت روسيا لإعادة احتلال جزيرة القرم وإلحاقها بروسيا، فكان الرد الأميركي والأوروبي قاسياً بعقوبات اقتصادية وعسكرية، وتمّ التعامل مع روسيا كدولة من دول العالم الثالث، ومخاطبتها بلغة الأمر، وضرورة التراجع وإلا.. ونتيجة لتقاطع المصالح بين محور المقاومة وروسيا ضد عدو مشترك، تقدّمت روسيا خطوة نحو التحالف مع سورية وإيران، وكان التدخُّل الروسي في نهايات العام 2015، حيث حشدت كل آلتها العسكرية النائمة منذ العام 1990، ورأت أن الهجوم خارج أرضها أفضل وسائل الدفاع لمقاومة المشروع الأميركي، الذي يتحضّر لنقل المارينز التكفيري إلى الجمهوريات الإسلامية في روسيا، وبعد النتائج الإيجابية والأرباح التي جنتها موسكو بشكل بات يهدد المصالح الأميركية، وبدأت روسيا التعامل مع أميركا "الند للند"، والثنائية الدولية في الإقليم، بدأت أميركا بإعادة تحريك حلف الناتو، وتجميع قواته على حدود روسيا وفضائها الأمني في دول البلطيق ودول حلف وارسو السابق، وبعد بضعة أشهر سيتم نشره في كل من بولندا وليتوانيا ولاتفيا واستونيا، وبدأت مبالغة الإعلام بالقدرات الروسية لتأليب الرأي العام، حيث نشرت صحيفة "صن" البريطانية أن "روسيا قادرة بخمس أو ست قنابل نوع ساتانا-2 على إزالة السواحل الشرقية للولايات المتحدة من على وجه الأرض خلال دقائق"، وكذلك طلبت سامانتا باور؛ مندوبة أميركا لدى الأمم المتحدة، من مجلس الأمن الدولي فرض حصار اقتصادي كامل على روسيا، بسبب "تدخُّلها بالحقل الكهرومغناطيسي للأرض"، واعتبر ريتشارد شيريف؛ النائب السابق لقائد قوات الناتو في أوروبا، أن الحرب بين الأطلسي وروسيا قادمة لا محالة، مرجحاً اندلاعها قبل نهاية العام الجاري، وفي المقابل اعتبر ألكسندر غروشكو؛ مندوب روسيا لدى حلف الناتو، أن "ممارسات الأطلسي صارت تولّد خطراً يهدد الأمن الأوروبي بالكامل، والاتفاقات المبرَمة بين روسيا والناتو".
الحرب الأميركية - الروسية بدأت خلف الكواليس في العراق وسورية، فهل تتوسع أميركا في تهديد روسيا على حدودها، لثنيها وإجبارها على التراجع في سورية، لتسهيل الانتصار الأميركي - التكفيري، أو على الأقل الاحتفاظ بتوازن القوى؟