13 حزيران 2011 أبشع التواريخ في مسيرة الرئيس سعد الحريري. 3 تشرين الثاني 2016 قد يكون أفضلها على الإطلاق. تاريخان يجمعهما هاجسٌ من العقدة نفسها: المكوّن الشيعي. في التاريخ الأول كان الشيعة سببًا “وجيهًا” لإنهاء مسيرة الحريري الحكومية لا بل السياسية ورحيله من لبنان، وفي الثاني ملامحُ رفع سقف من المكوّن نفسه لحكومة العهد الجديد قد يكون حلُّها بسيطًا: إرضاء الرئيس نبيه بري.
واضحٌ أن برّي الذي سلّف رئيسَي العهد الجديد موقفين مساعدَين لن ينام على أثمانه المقابلة ساندًا يده على كتف حزب الله. فله في جعبة الرئيس العماد ميشال عون تأمين نصاب الجلسة الرئاسية التي أنتجته رئيسًا وعدم السماح “للهرطقات الباهتة” من بعض النواب بتطيير الجلسة رغم أن الذرائع كانت متوفرة بين يديه، وله في جعبة الرئيس الحريري “شرعيّة شيعية” منحه إياها مساء أمس الأول بتسميته في قصر بعبدا للتأليف في ظلّ عدم إقدام حزب الله، المكوّن الشيعي الآخر، على تسمية أحد.
تنازلات باهظة؟
لا يقصد بري حرفيًا كلّ ما يقول، ولا المدينون له يبنون على كلام تجاملي على شاكلة ذاك الذي باعه للحريري في القصر عندما قال له إن تسميته تأتي إيفاءً لدين قديم. فسيّد عين التينة سارع الى إرفاق مغازلته تلك بغمزةٍ من قناة إرضائه “حقيبيًا” كي لا ينتقل الى صفوف المعارضة ومعه حزب الله، وبالتالي يصعب على الحريري تشكيل حكومةٍ تفتقد الى الصوت الشيعي. محشورًا في الزاوية يبدو الرئيس الحريري، لا بل مضطرًا الى تقديم تنازلاتٍ قد “تكسر ظهره” وتدخله في خلافاتٍ تفصيلية على التوزيع مع كتلٍ أخرى على رأسها كتلة القوات اللبنانية التي تضع عينها على إحدى حقيبتي المال والداخلية اللتين تبدوان محسومتين بالبقاء على ما هما عليه اليوم، أي احتفاظ السنة بـ “الداخلية” والشيعة بـ “المال” وهنا بيت القصيد. فمن جهةٍ، لا يمكن للحريري أن يغامر بإغضاب بري الذي يعود ليتحكّم بموازين اللعبة بعدما بدا خارجها في تسوية ترئيس عون، ومن جهةٍ أخرى يتّسع هامش الصعوبات أمام الحريري نظرًا الى سعة المشاركة في الحكومة، ما يجعله مجبرًا على إرضاء عددٍ أكبر من الأطراف يفوق نظيره في نسخة العام 2009.
الكلّ يريد حقّه!
9 تشرين الثاني 2009: التأليف الأول. قد لا يحظى شهر تشرين الثاني بشرف احتضان حكومة الحريري الثانية على غرار اللعبة البرتقالية الرقمية بين 13 و31 تشرين الأول. فرضيةٌ لا تعني حكمًا أن التأليف سيطول، بقدر ما تمنح تذليل العقبات التوزيعية فرصةً تتعدى الشهر الواحد. يعلم الحريري على ما تقول مصادر “مستقبلية” لـ”البلد” أن “التأليف لن يكون سهلًا ولكنه متفائل في المقابل بأنه لن يكون شديد الصعوبة، لا سيّما أن الحكومة التي ينشدها هي حكومة وفاقية تمنح كلّ ذي حقٍّ حقّه ركونًا الى حجمه التمثيلي في البرلمان. كما يعلم الحريري جيدًا أن بري لن يكون وحده الرقم الصعب في المعادلة، بل سينضمّ اليه القواتيون الذين يشكّلون أحد أبرز أركان العهد الجديد لمجرّد تبنيهم ترشيح عون رسميًا في حركةٍ قلبوا من خلالها الطاولة على رؤوس الجميع، وها هم اليوم يبحثون عن “حقهم” البديهي الذي يضمنه لهم الرئيس العماد عون ألا وهو تعبيد الطريق أمام عودتهم الى السلطة بعد طول انقطاع بحصّة “حرزانة” ليس فقط عدديًا بل نوعيًا أيضًا.
انتصار “الوفاق”
على جبهاتٍ أخرى تبدو المهمة أكثر تيسُّرًا. فكتلة المستقبل وتكتل التغيير والإصلاح متفقان على صيغة توزيع حقائبهما، تمامًا كما يبدوان منسجمين في ما يتعلق بمضمون البيان الوزاري الذي سيصون بنود سلفه مع استلهام الكثير من خطاب القسم الذي أعجب الجميع وعلى رأسهم أبناء المستقبل المعترضون على ترئيس عون. أما في الكواليس الأخرى فلم تصل الأصداء بعد من المختارة التي يتعاطى سيُدها بذكاءٍ شديد من دون أن يعني ذلك التنازل عن حقوقه التي يبدو جلّها وجوهرها أكبر من السلطة التنفيذية في اتجاه الانتخابات النيابية، فيما لا يزال الغموض يلفّ موقف حزب الكتائب، مع ميل مصادر الصيفي الى ترجيح كفّة المشاركة على عدمها، خصوصًا أن الرئيس سامي الجميل يتعرّض على ما علمت “البلد” لنوعٍ من الضغوط المحيطة للسير في التسوية وعدم البقاء وحيدًا خارج السلطة في خيارٍ يبدو غير مفيدٍ البتّة. ويركن المتفائلون في موقف الكتائب الى ليونة الحزب التي تجسدت في ترشيح الحريري لرئاسة الحكومة رغم إبدائه مؤشراتٍ سلبية قبل يومين من الاستشارات الملزمة بعدم التصويت لرئيس العهد الجديد، كما والى كلام الجميل أمس عقب الاستشارات والذي أوحى للكثيرين بأن الرجل ذاهبٌ الى المشاركة بطلبٍ من الحريري وبقناعةٍ منه.
انفتاحٌ غير مسبوق
وحده حزب الله يرقب من بعيد كلّ تلك الحراكات والمفرقعات المحيطة المحتفلة بتكليف الرئيس الحريري بـ112 صوتًا. يعرف جيدًا أن تلك الغالبية الساحقة لا تعني مهمّة تأليفية سهلة للحريري في الضرورة رغم تفاؤل الأخير بأجواء إيجابية رشحت أمس عن يوم استشاراته الأول في مجلس النواب، إذ يمكن لـ13 نائبًا فقط من الطائفة الشيعية يُطرحون من هذا الرقم أن يعرقلوا التشكيل تحت عنوان “الميثاقية” التي لا تكتمل من دون الحضور الشيعي الوازن. تلك الحسابات تجول كثيرًا في كواليس حزب الله، من دون أن يكون رادعه الوحيد في هذا المجال أو نقطة ضعفه حرصه على إنجاح عهد حليفه الماروني وعدم وضع العصي في الدواليب منذ الأيام الأولى لانتخابه. حرصٌ لا يعني توجّهاتٍ مُعمّاة للحزب الذي لم يأخذ على نفسه تسمية الحريري في بعبدا تصالحًا مع موقفه غير المتجانس مع تصعيدات الرئيس المكلّف الخطابية تجاه الرئيس السوري بشار الأسد وقبله وجود حزب الله في الميدان السوري، بيد أنه في المقابل بدا واضحًا وحاسمًا بإطلاقه يد الرئيس نبيه بري وتسليفه موقف المفاوضة باسمه في الحصص وحسم عدم مشاركة الحزب في حال عدم رضى بري. ويبدو أن “بيع الحقائب” بالجملة لن يقف عند عتبة عين التينة بل ستتسع رقعته الى بنشعي التي أبدى رئيسها أمس انفتاحًا غير مسبوق على عهد عون، كما غمز من قناة انضمامه الى حكومة الوفاق شرط حصوله على حقيبة وازنة.
طموحاتٌ لا بل أطماع
رغم أن طاولة الحوار الثنائي ما زالت قائمة في عين التينة، بيد أنها لا تبدو كافيةً لتقريب المسافات أكثر بين حزب الله والحريري بالذات، وإن كان كثيرون يراهنون على أن برّي سيؤدّي الدور الأقوى في هذا المجال على جبهة حزب الله الذي كلفه التفاوض باسمه، ولكن حكمًا لن يحصل أيٌّ من ذلك إلا في حال نال برّي ما أراد من قطعة الجبن الحكومية وهو ما نحن ذاهبون اليه أغلب الظنّ رغم محاولة كثيرين الارتقاء بنظرية أن حزب الله ما عاد مكترثًا لوضعية بري وهو ما حرص نصرالله على تأكيد عكسه أمس بإيثاره خيارًا لصيقًا برغبة حليفه الشيعي. أما المعادلة شبه النهائية من يوم الاستشارات الأول بجولتيه فالآتية: الحريري هو المحرَج الأول وعون هو المُحرَج الثاني: الأول تجاه المكوّن الشيعي والثاني تجاه حليفه المسيحي؛ توجّهٌ سريع الى تشكيل حكومة جامعة يبقى عددُ وزرائها غير محسومٍ في انتظار تلمُّس “طموحات” الجميع لا بل “أطماعهم”؛ الرئيس بري بدعمٍ من حزب الله يملك مفاتيح السراي؛ وأخيرًا والأهم الجميع ينشدون حقائب وازنة على قلّتها فيما الغائب الأكبر عن كلّ هذه الصيغة اثنان: المعارضة والمداورة.