على وقع الإرتباك الحاصل في منطقة الشرق الأوسط، بانتظار نتائج السباق الرئاسي الأميركي بين المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، تشن أكبر حملتين عسكريتين على تنظيم "داعش" الإرهابي، بقيادة واشنطن، للقضاء على معاقله الأساسية في سوريا والعراق، أي مدينتي الموصل والرقة، وسط العديد من السيناريوهات التي تتحدث عن أن الولايات المتحدة قررت مغادرة هذه المنطقة.
إنطلاقاً من هذا الواقع، تطرح الكثير من الأسئلة حول مستقبل الشرق الأوسط، خصوصاً أن العديد من المسؤولين الغربيين باتوا يعتبرون أنه يتوقف على ما سيحصل في الرقة والموصل، بسبب التداخل والتضارب بين المصالح الدولية والإقليمية، في مشهد يؤكد بأن الصراع لن ينتهي في وقت قريب، بل على العكس من ذلك سوف يتفاقم في المرحلة المقبلة، بغض النظر عن هوية الرئيس الأميركي الجديد.
في هذا السياق، لا يمكن بعد اليوم الحديث عن مغادرة واشنطن الشرق الأوسط، فهي حاضرة بكل تفصيل لكنها تعتمد إستراتيجية جديدة تحد من تدخلها المباشر، مقابل الإعتماد على حلفاء محليين يحققون أهدافها بشكل أفضل، لحد يمكن معه القول أن أغلبهم يخدم مشاريعها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فأميركا تدرك جيداً اللعب على التناقضات الطائفية والقومية والعرقية، وتعمل على إدارتها كي تحد من خسائرها.
بالتزامن، لم ينجح الدخول الروسي المباشر إلى المنطقة، عبر بوابة الحرب السورية، في الحد من تأثير الولايات المتحدة، بل هو عكس الصراع على النفوذ بين الجانبين، وهو حرص منذ اليوم الأول على إنضاج تقاسم أدوار مع واشنطن، من خلال ثنائية وزيري خارجية البلدين جون كيري وسيرغي لافروف، على قاعدة منع التصادم المباشر، بانتظار الوصول إلى تسوية سياسية تحقق أهداف كل منهما، إلا أن هذا لا يمنع التنافس على تحسين شروط التفاوض من خلال تحسين أوراق القوة العسكرية.
بناء على هذه الوقائع، يمكن فهم ما يجري في الموصل والرقة، والحرص الأميركي على إدارة العمليات العسكرية في المدينتين، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، فهي عادت بكل ثقلها إلى المشهد العراقي وسيكون لها دور أساسي في مستقبل البلاد السياسي، ونجحت أيضاً في الدخول إلى نظيره السوري، بعد أن بات لها قواعد عسكرية، في حين أن حلفاءها يسيطرون على مساحة واسعة من البلاد، ومن المؤكد أن رسم مستقبله لن يتم من دون الأخذ بعين الإعتبار مصالح الولايات المتحدة، الأمر الذي يمكن ترجمته عبر الكثير من المواقف التي تتحدث عن إنتهاء عصر إتفاقية سايكس- بيكو، التي أبرمت في العام 1916، بالتزامن مع الإعلان التركي، على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان، عن فتح باب النقاش حوال إتفاقية لوزان التاريخية(1).
من حيث المبدأ، منطقة الشرق الأوسط في طور الدخول في مرحلة جديدة من تاريخها السياسي، ستكون على أنقاض ما هو متعارف عليه منذ سنوات طويلة، تحت عنوان القضاء على التنظيمات الإرهابية المتطرفة، التي كانت الأداة الأفضل لقلب المشهد رأساً على عقب، ستسعى فيها كافة القوى المؤثرة، سواء كانت إقليمية أو دولية، إلى حجز موقع بارز لها، الأمر الذي يُفسر الحماسة الأوروبية للمشاركة في معركتي الموصل والرقة، بعد أن كانت دول القارة العجوز تفضل البقاء بعيدة عن المشهد العسكري، مكتفية بالدور الدبلوماسي، الذي لا يمكن أن يؤمن مصالحها في الصراع العكسري الحالي.
على هذا الصعيد، يأتي الحديث عن أن معارك القضاء على "داعش" لن تنتهي في وقت قريب، بعد أن تأخر إنطلاق العديد من الحملات العسكرية ضد معاقله، بسبب الخلافات السياسية بين القوى المتناقضة، بانتظار ترتيب المشهد على نحو يصعب قلبه من جديد مرة أخرى، ليبقى السؤال الأبرز حول الصورة النهائية التي ستكون عليها المنطقة، بعد أن بات من المؤكد أنها لن تعود إلى ما كانت عليه قبل العام 2011؟ ومن هم اللاعبون الأساسيون الذين سيشاركون في رسمها؟ وماذا عن دور بعض القوى الإقليمية التي تضع كل ثقلها في المعارك العسكرية القائمة خصوصاً تركيا وإيران؟
في المحصلة، ستحمل الأيام المقبلة معها الكثير من التطورات المهمة، التي يمكن القول أنها تساهم في رسم مستقبل الشرق الأوسط والعالم معاً، لكنها على الأكيد لن تكون خالية من مشاهد الدمار والقتل، نظراً إلى أن الصراع لم ينته بل هو في طور الدخول إلى مرحلة جديدة.
(1) معاهدة لوزان تم توقيعها في 24 تموز 1923 وتم على اثرها تسوية وضع الأناضول وتراقيا الشرقية (القسم الأوروبي من تركيا حاليا) في الدولة العثمانية وذلك بابطال معاهدة سيفر التي وقعتها الدولة العثمانية كنتيجة لحرب الاستقلال التركية بين قوات حلفاء الحرب العالمية الأولى والجمعية الوطنية العليا في تركيا (الحركة القومية التركية) بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وقادت إلى اعتراف دولي بجمهورية تركيا التي ورثت محل الإمبراطورية العثمانية.