نقتطع جزئية من كلمة الرئيس العماد ميشال عون التي ألقاها في بيت الشعب يوم الأحد الماضي: "لن نكون مرتهَنين لأي بلد آخر، واستقلالنا وسيادتنا لا يشكلان خصومة مع دول أخرى، بل صداقة صريحة وقدرة على احترامها، ونكون قد تخلّصنا من التأثيرات الخارجية".
هذه الإستقلالية في القرار اللبناني عمرها شهران فقط لا غير، نعم، شهران هو عمر الاستقلال النهائي للبنان، وانتخاب الرئيس عون هو بداية النتائج وقطف الثمار، والجميع يذكر أن الرئيس سعد الحريري قبل مغادرته منذ نحو شهر إلى باريس والرياض، أسرّ للمقربين منه بالقول: قمتُ بكافة المبادرات؛ من ترشيح جعجع، إلى ترشيح فرنجية، وإذا لم أجد سبيلاً لانتخاب العماد ميشال عون، فإن العودة إلى طرح مرشّح وسطي ستكون آخر مبادرة لي.
استقلال جاء نتاج نضال طويل منذ الثمانينات، وتحققت أولى الإنجازات الوطنية العظيمة لهذا الاستقلال في التحرير عام 2000، واستُكملت في ردع عدون تموز 2006، وحرب نهر البارد عام 2007 جاءت كأول ردة فعل دولية وإقليمية على انتصارات المقاومة، لا بل إن "الربيع العربي" أريد له أن يبدأ عام 2007 من لبنان، وكل ما حصل في الإقليم الملتهب منذ العام 2011 وحتى الآن كان فيه لبنان من أولى الدول المستهدَفة، والهدف الأهمّ هي المقاومة، لأنها كانت وماتزال رأس الحربة في تهديد "إسرائيل"، وفي منع رسم "الإسرائيليات".
نستذكر هذه الجزئيات كي لا يذهب اللبنانيون في استسهال مسألة وصول أقوى مسيحي مشرقي إلى بعبدا في مثل هذه الظروف، حيث تُقتلع الأقليات المشرقية من أوطانها، وكي لا يعتبر المسيحيون في لبنان أن الأمور تمّت تسويتها داخلياً ووصلت إلى رئيس "صُنع في لبنان"، من خلال التوافق "العوني" - "القواتي" أو التقارب مع "تيار المستقبل"، لأن من "صنع" الرئيس في لبنان هي "وثيقة مار مخايل"، عبر صلابة الحليف ميشال عون في الحق، وصمود المقاومة في الداخل وعلى الحدود الشرقية مع سورية، واستمرار جهوزيتها جنوباً، مع مواجهة سياسية دولية وإقليمية وداخلية من أجل رئيس يكرر تجربة إميل لحود ولا يكرر الخيبة مع ميشال سليمان.
ومن كان يرغب بتسمية لبنان بـ"دولة حزب الله" آن له أن يُدرك أخيراً أن مقاومة حزب الله ومعها الجيش والشعب، أو ما يُعرف بـ"المعادلة الثلاثية"، هي من فرضت سيناريو انتخاب الرئيس عون، بعد أن فشلت كل السيناريوهات الدولية والإقليمية في إبعاد ميشال عون عن بعبدا لسبب أساسي؛ أنه حليف حزب الله، وتصميم الأمين العام السيد حسن نصرالله على مواجهة القوى الدولية والإقليمية بالصبر والعناد على قاعدة "عون أو لا أحد" انتصر على كافة الخيارات، ونزع سماحته في الوقت نفسه التهمة عن المقاومة، التي رددتها أفواه الخصوم عن أن لبنان هو "دولة حزب الله"، وانتزع بمواقفه الصلبة الاستقلال والسيادة لـ"دولة لبنان الكبير"، وأبعد بدماء الشهداء الجغرافيا اللبنانية عن كافة ألاعيب الموت الدولية والإقليمية ومشاريع رسم "الإسرائيليات"، وكان الاستقلال، وبات الرئيس صناعة لبنانية، بسعي فرنسي، ومباركة روسية، وانكفاء أميركي، وإذعان سعودي لواقع أن مناكفة حزب الله بشخص ميشال عون لم تعُد مجدية.
تتطابق التحليلات أو تتقاطع حول كيفية وصول الرئيس عون إلى بعبدا، وبدا لبنان وكأنه مصنع تجميع قطع غيار مستوردة، وتم إنتاج الرئيس داخلياً مع خاتم "صُنع في لبنان"، ولم يجرؤ سوى القلة على الاعتراف بأن الفضل الأول والأخير هو لصمود المقاومة وحلفائها أمام موجات التكفير والإرهاب بين عامي 2012 و2015، و"نأي لبنان" ببندقية الجيش والمقاومة عن ارتدادات الحرب في سورية.
وسط الغليان الإقليمي، والمواجهة الإيرانية - السعودية على أكثر من جبهة، والتي انتهت بهزيمة سعودية مبدئية في اليمن، ونهائية في العراق وسورية، إضافة إلى النصر الإيراني في الملف النووي، والذي اعتبرته أميركا مشترَكاً، خصوصاً بعد نيل وزيري خارجية البلدين ظريف وكيري جائزة عالمية مرموقة تقديراً لجهدهما في إنجاح المفاوضات، ما انعكس تقارباً أميركياً مع إيران على حساب السعودية ودول الخليج الأخرى، وتزامن ذلك مع تصميم الرئيس بوتين على أن مصالح روسيا في سورية ممنوع المساس بها، وإيران هي الحليف الأقوى،
ومع بقاء أوروبا وحيدة في مواجهة الإرهاب المتدفق عليها ضمن أفواج اللاجئين، ولأن فرنسا كانت أكثر المتضررين من عمليات الإرهاب، ولأن لبنان يضم أكبر عدد من النازحين السوريين، جاءت مصلحة فرنسا مزدوَجة؛ باستلام الملف الرئاسي اللبناني كحقّ تاريخي لها، ودعم لبنان عبر تأمين الاستقرار الداخلي، وتوفير مقومات صمود له لتمكينه من استيعاب عبء النزوح السوري وعدم انفجاره في وجه الجميع، وجاءت "الرعاية الفرنسية" مقبولة من غالبية الفرقاء، وانتهت الأمور، ونال لبنان استقلاله الثاني والنهائي عن طاولة اللاعبين الدوليين، وشاء القدر أن تكون دولة الانتداب السابقة هي نفسها التي خضعت لإرادة اللبنانيين ونال لبنان هذا الاستقلال بسواعد الجيش والمقاومة ودماء الشهادة، واستحق العلم اللبناني تكريس اللون الأحمر عن جدارة.