بين سنة 1982 تاريخ نشوء حزب الله، و16 آذار 1985 تاريخ إعلان الميثاق التأسيسي له، وعام 2009 تاريخ إطلاق الميثاق السياسي الجديد على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله، تبدّلت المعطيات الإقليمية والدولية التي كانت عنصراً هاماً في تطلّعات حزب الله الوطنية والإقليمية.

فالميثاق التأسيسي سنة 1985 وُضع في ظرف تاريخي معيّن اختلفت آفاقه وعوامله وآماله وتمنّياته عن آفاق الحاضر وعوامله، إذ كان إطلاق برنامجه في تلك السنة نتيجة حتمية للاجتياح "الإسرائيلي" وصولاً إلى العاصمة بيروت.

في تلك المرحلة التي عُرف بها "الحزب" بالمقاومة الإسلامية للاحتلال "الإسرائيلي"، كانت في الساحة أحزاب مقاومة أخرى، وفي طليعتها الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي، وربما بهذا المعنى أراد السيد حسن نصر الله أن يعطي بهذه اللمسة الدينية نفحة تغيير لفحتها الثورة الإيرانية، التي وضعت القضية الفلسطينية في صُلب عقيدتها ونضالها ضد العدو الصهيوني، في الوقت الذي كان العرب يؤمنون فعلاً بهذه القضية، إلا أنه سرعان ما تبيّن مع الأيام أن إيمانهم هذا تراخى إلى المرتبة الثانية بعد مصالح أنظمتهم ودولهم المختلفة، ولم تعد القضية الفلسطينية تعنيهم إلا كورقة مساومة في سبيل المصالح في ذروة البحث عن السلام، لذا ذهبوا باتجاه مصالحهم وأنظمتهم فرادى إلى توقيع معاهدات سلام منفردة مع الكيان العبري. إلا أن هذا التعميم ما كان لينطبق على الجمهورية العربية السورية بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي ظلّ متمسكاً بالحقوق العربية ككل، وبالحق الفلسطيني كمحور، وحال دون الانجرار في لعبة المصالح الضيقة التي أثبتت الأيام عقم جدواها في الصراع القائم بين العرب و"إسرائيل".

أدت هذه المواقف المتراجعة للعرب إلى تقدُّم المواقف الرادعة لسورية وإيران والمقاومة في أرجاء سورية ولبنان وفلسطين والعراق، ما أحدث اليوم تحوُّلاً في موازين القوى لصالح دول الممانعة للمشاريع الاستسلامية في المنطقة، بعدما أحدث تخلّي الدول الكبرى عن حل مشكلة الشعب الفلسطيني المشرّد خارج أراضيه بلبلةً وتخبُّطاً وضياعاً، حتى وصل الانقسام إلى داخل البيت الواحد في فلسطين نتيجة هذا الواقع الانهزامي المُطالب بأي حل مهما كان الثمن، بعدما عجزت الحروب النظامية العربية عن إحداث فارق في منطق السلام المدرَج على دول المنطقة، فكان لا بد لهذا الفراغ أن تملأه حركات المقاومة؛ من لبنان إلى سورية وفلسطين والعراق، حيث أحدثت ما يشبه "توازن الرعب" في المعادلة الإقليمية، لاسيما بعد الاستهداف "الإسرائيلي" للبنان خلال سنتي 1993 و1996، وإجبار المقاومة العدو على الانسحاب من لبنان سنة 2000، وصولاً إلى الحرب "الإسرائيلية" على لبنان في تموز 2006 وغزة عام 2008 في فلسطين، في ظل هذه الانتفاضات المقاومة لـ"إسرائيل"، أصبحت المقاومة اللبنانية التي تحمل شعار حزب الله، رقماً صعباً في أي بحث تفاوضي، إلى حد طرحت فيه سورية فكرة مشاركتها في المفاوضات السورية - "الإسرائيلية" التي أديرت بالوساطة التركية.

ومثلما ألغت الحرب العالمية الساخنة نفسها بنفسها بين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق وتحوّلت إلى حرب باردة، وأحدثت عصر "توازن رعب"، هكذا أحدثت الخسائر البشرية والعسكرية "الإسرائيلية" في لبنان وغزة عامل توازن عسكري، ولو لم يكن متكافئاً في أدوات التسلُّح المتطورة والمتكاملة لصالح الجيش "الإسرائيلي" في مواجهة قوة صاروخية وصلابة إيمانية في القتال لحزب لبناني عرف كيف يزرع عقيدته الإيمانية في نفوس مقاتليه، ويحوّلها إلى قوة نابضة على ساحة المعارك.

وما دام حزب الله لا يقاتل إلا في سبيل أرضه وشعبه ودولته وقضية فسلطين، لارتباطها بمقدسات روحية عزيزة، ومن أجل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وقهر الإرهاب التكفيري، فإن سلاحه مصوَّب إلى هدف عادل وقضية مُحقّة.

من هذه المتبدّلات الإقليمية الهائلة، عرف قائد المقاومة السيد حسن نصر الله أن يخرج بميثاق سياسي جديد في خُطَبه ليؤكد على أصالة حزبه في لبنان كمنطلق وتجربة مفيدة في الصراع العربي - "الإسرائيلي"، وقد أثبتت فاعليتها في التصدي المقاوم للإرهاب التكفيري في سورية، ومنع امتداده إلى لبنان.

فلأول مرة في تاريخ المقاومة طرح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بوضوح متناهٍ رؤية المقاومة إلى الوطن على أنه وطن الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد، والمقاومة تريده لكل اللبنانيين واحداً موحَّداً شعباً وأرضاً ودولة، وهو النقيض التاريخي لقيام دولة "إسرائيل" العنصرية الساعية إلى تدمير صيغته.

ومن هذا المنظور، فهو يتطلع إلى دولة ونظام سياسي تنتفي منه الطائفية السياسية، إلا أن واقع الهواجس الداخلية يملي علينا جميعاً الالتزام بالديمقراطية التوافقية لإزالة أي لبس عن أكثرية أو أقلية.

غير أن عدم تطبيق إلغاء الطائفية السياسية لا يمنع أن تعتمد الدولة خيارات تغلب فيها أفضلية الكفاءات والمهارات والنزاهة والتجرد معياراً لإصلاح إدارتها.

وإذا كانت الأوضاع الداخلية منقسمة حول دور المقاومة في بُعديْها الداخلي والخارجي، لاعتبارات إقليمية متصلة بالصراع القائم في المنطقة، فقد طمأن الأمين العام السيد حسن نصر الله إلى أن السياسة العامة للدولة هي صمام الأمان لقرار السلم والحرب، وكيفية وضع كل القدرات في الخطة الدفاعية إلى جانب الجيش الوطني، إلى حدّ المزاوجة في التصدي لأي اعتداء أو عدوان "إسرائيلي" أو تكفيري على لبنان.

غير أن الأمين العام لحزب الله، من منطلق الحرص على علاقات مميَّزة مع سورية، وجّه نداء إلى شركائه في الوطن بضرورة إنهاء حالة الأجواء السلبية، لأن هذه العلاقات حاجة سياسية وأمنية واقتصادية، وهو حريص على ضرورة التحاور مع القيادات الفلسطينية في لبنان لتحسين أوضاع المخيمات، من دون إغفال عامل العودة ورفض التوطين.

هذا الميثاق بكل الأبعاد التي طرحها، وطنياً وقومياً، ينمّ عن منحى متطور في انخراط الحزب تحت سقف الوفاق والدولة والمصلحة الوطنية العليا.