انقلاب أحدثه فوز دونالد ترامب في الحياة الأميركية، ليُسجل التاريخ انه رسّخ إسمه في سجل الولايات المتحدة كما حال رئيسين أميركيين فقط يذكرهما التاريخ: الأول هو فرانكلين روزفلت الذي قاد بلاده الى حرب عالمية في سبيل إنقاذ الولايات من الكساد الذي أصابها وأرسى عقد "دولة الرعاية"، والثاني هو دونالد ريغان الذي ضرب مشروع روزفلت وربح بالحرب الباردة المعركة ضد "السوفيات".
يترجم ترامب اليوم صعود الشعبوية الاميركية التي تريد انكفاء البلاد الى الاهتمام حصراً بحال الولايات قبل الانشغال بمصالح العالم. ترغب أكثرية الأميركيين بمحاربة الطبقيّة التي تزداد حتى باتت نسبة واحد في المئة من الشعب الأميركي تمتلك حوالى ثمانين في المئة من ثروة البلاد. المسألة تتخطى الاعتبارات اليمينية او اليسارية. هي تتعلق بفقراء وطامحين عاجزين وجدوا في خطاب ترامب ملاذاً او سبيلاً لتحقيق تطلعاتهم. شكاوى المواطنين الأميركيين هي عند الطبقة الوسطى التي تشكل غالبية تريد رفع الاجور، والحد من كلفة التأمين الصحي ووقف الصرف المالي على الحروب، والتزامات أمن دول أخرى ومزاحمة المهاجرين غير الشرعيين في سوق العمل وشكاوى لا تُعد، أدت جميعها الى ازدياد نقمة الناس من تصرفات الديمقراطيين وخطة عمل هيلاري كلينتون وبذات الوقت تراكم الإعجاب بخطاب ترامب الشعبوي.
الرئيس الأميركي المنتخب ليس انعزالياً، بل كان واقعياً في مقاربته. تحدث بلغة الناس. لم تحدّ من وصوله الى البيت الأبيض حرب إعلامية شعواء قادتها إمبراطوريات الولايات الإعلامية. ولم تنفع انتقادات الصحافيين والمفكرين والمنظرين له. هذا يثبت ان عصر التواصل الاجتماعي بات أقوى من الوسائل الإعلامية التقليدية. يثبت ايضاً ان زمن استطلاعات الرأي سقط، لأن ترامب كان يعبّر عن أصوات الأكثرية الاميركية العادية، لا الطبقات المخمليّة والتجاريّة والفكريّة والثقافيّة. هذا زمن الشعبويّة وكسر التقليد الحزبي الذي اعتادت عليه أميركا والعالم. فوز ترامب صعق الديمقراطيين وسحق كل من عارضه من الجمهوريين. هذه معادلة جديدة تُدخل الولايات الاميركية الى واقع جديد. الناس تجاوزوا خطوط الحزبين المعروفين وصوتوا لخطاب وخيار وجدوه أقرب من هذين الحزبين إليهما. تلك حال معظم شعوب العالم في هذه الأيام. هذا ايضا ما يعتمد عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقارباته السياسيّة. قد تصبح الدول الأوروبيّة على نفس الموجة. لكن اليمينيين يحاولون الاستفادة من هذا التوجه الشعبي لتوظيفه في تموضعهم.
بعد تقدم الشعبويّة التي تعيد الدول العظمى الى حدود بلادها، سيشهد الشرق الأوسط تحولات جديدة. لا حروب أميركيّة من أجل أحد. لا تدخّلات عسكريّة لحماية أي قوى. لا بل سيعتمد ترامب اُسلوب التفرّج عن بعد. سينشغل بإبعاد التطرّف عن بلاده. سينهي اتفاقات التجارة الحرّة مع دول غربيّة عدّة، مقابل تقريب المسافات مع الصين وروسيا. هذا يعني أنّ موسكو وبكّين ستتفردان في ساحات الشرق الاوسط ولا سيّما في سوريا. هذا يعني إكمال معركة حلب وشمال سوريا وما بعدها، لأن ترامب سيصفّق لبوتين في حال أنهى تواجد الإرهابيين المتطرفين في سوريا من دون أيّ كلفة أميركية. الحال ينطبق على ساحات أخرى ايضاً. يعرف ترامب جيدا أنّ الأميركيين اختاروه للاهتمام بولاياتهم لا الانشغال بساحات الحلفاء والاصدقاء. انها خيارات جميع شعوب العالم في هذه المرحلة. فلننتظر من يكون فائزاً بعد ترامب. هل تنتصر ايضا الشعبويّة الأوروبيّة بدءا من فرنسا؟ يبدو الأمر كذلك. العالم يتغيّر بالانكفاء الى حدود دوله. لا داعي للقلق.