تصعب قراءة المشهد الحالي والمستقبلي بعدما زالت كتحالفات ثابتة كل من قوى «8 و14 آذار»، وانخرط الجميع في سباق الى السلطة يتمّ التعبير عن أبسط أشكاله في تشكيل الحكومة، فيما الاشكال الأخرى متروكة للانتخابات النيابية وما ستفرزه من تحالفات.لم تعد علاقة تيار «المستقبل» بـ«القوات اللبنانية» كما كانت، وربما لن تعود، كما أنّ علاقتهما معاً ببقية القوى لن تكون كما في الماضي، فـ«14 آذار» التي يطمحان لتمثيلها داخل الحكومة وتحت سقف العهد الجديد، لم يتبقَ منها سوى العنوان، فيما الواقع يقول إنّ لغة الواقعية وممارساتها حذفت الشق الاهم من مشروع «14 آذار» ووضعته في الانتظار، بداعي عدم القدرة على الاستمرار في حمل عناوين لا يمكن تطبيقها.
من أولى النتائج على «14 آذار» الداعمة للعهد أنها دخلت في لعبة النزاع على الأحجام داخل الحكومة، وهذا النزاع غطّى على الغبار الكثيف الذي علا بعد انتخاب الرئيس ميشال عون، والذي حجب لوهلة ما سيحدث.
لا يبدو أنّ العلاقة بين تيار «المستقبل» و«القوات اللبنانية» عادت الى مرحلة شهر العسل حسبما أعلن الطرفان بعد الاتفاق على انتخاب عون،
فـ«القوات» لا تجد أنّ «المستقبل» يتعاطى معها انطلاقاً من كونهما ثنائية 14 آذارية، كما لا تجد أنّ «المستقبل» يتصرف معها كأنها تمثّل الشريك المسيحي الوحيد.
على الصعيد العملي لم يَخض الرئيس سعد الحريري الى الآن معركة «القوات» لنيل حقيبة سيادية، كذلك لم يتم الاتفاق على نوع الحقائب وعددها، وتركت «القوات» لتقلّع شوك تمثيلها الوزاري بيدها، مع ما يعني ذلك من محاصرة مطالبها، التي لم يتبنّها بحماسة رئيس الحكومة المكلّف.
فضلاً عن كل ذلك يتمسّك الحريري بتوسيع تمثيله المسيحي، وتمثيل الحلفاء، مثل الكتائب وغيرها، وهذا ما ادى الى تعميق الشرخ الكتائبي - القواتي، الى درجة بات يصعب ترميمه.
ولعل النزاع الحاصل على الاحجام، يعكس حقيقة ما تبقّى من هوامش توسيع النفوذ. فإذا كان البُعد السيادي للحكومة بات مقفلاً تماماً، ولا يجد من يطرق بابه، فإنّ البعد المتمثّل بتوزيع الاحجام داخل السلطة قد فتح على مصراعيه، ولن يكون تشكيل هذه الحكومة سهلاً، لأنّ ولادتها ستعكس أحجاماً غير قابلة للتعديل في المستقبل، اي أنّ كل طرف سيقبل بحصة وزارية، عليه أن يعترف منذ الآن بأنّ حصته ستصبح رقماً ثابتاً غير قابل للارتفاع، ومن هنا يمكن فهم النزاع على الاحجام ونوعية الحقائب.
فإذا قبلت «القوات اللبنانية» على سبيل المثال بأن تخضع لـ«الفيتو» الذي يضعه عليها «حزب الله» لنيل وزارة سيادية في هذه الحكومة، فسيتحول هذا الفيتو عرفاً يطبّق حكماً في كل الحكومات التي تليها، وما يُطبّق على «القوات» يُطبّق على الكتائب و«المستقبل» بدرجة أقل، لكنه بالتأكيد لا يُطبّق على «حزب الله» الذي يمسك بورقة ولادة الحكومة، من دون ان يبدي اي استعجال في ولادتها إلّا بعد أن تطبق خريطة الطريق التي رسمها.
واذا كان «حزب الله» قد رسم هذه الخريطة مسبقاً، فإنّ كل الحكومات المقبلة ستشكّل وفقاً لهذا العرف الذي أصبح أقوى من الدستور، والذي تجاوز بأشواط مبدأ الاستشارات والتسمية وصلاحيّات رئيسي الجمهورية والحكومة بتشكيل الوزارة، وهو ما سيطبّق في اول حكومة تشكّل بعد الانتخابات النيابية، وفي كل الحكومات.
عملياً، سيكون الوقت الضائع قبل ولادة هذه الحكومة بلا معنى أو فائدة، خصوصاً في ما يتعلق بالتوزير المسيحي، بالحصص والحقائب، فالفيتو الموضوع على تَولّي «القوات اللبنانية» وزارة الخارجية مصدره «حزب الله»، ويعرف ذلك عون والحريري، وسيمضي وقت ليس بقصير لتجد «القوات اللبنانية» نفسها وحيدة في مطالبتها بالوزارة السيادية، عندها سيتمّ تحميلها مسؤولية تأخير تشكيل الحكومة.
هذا ما فعله عون عندما أخّر تشكيل الحكومات السابقة، لكن كان «حزب الله» غطاءه وداعمه، امّا «القوات اللبنانية» فلن تجد من يغطي الى الأبد تمسّكها بالوزارة السيادية، ولن تستطيع الانتصار على خريطة الطريق التي رسمت من الضاحية لإعطاء الضوء الاخضر لولادة الحكومة.