يدور نقاش واسع في المنطقة والعالم، بشأن ماهية السياسة الخارجية الأميركية التي سيتم انتهاجها بعد انتخاب الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركية، لما لذلك من تأثير مباشر على الكثير من الملفات الساخنة في أكثر من منطقة في العالم، وطبيعة هذه الملفات التي ستقرر مستقبل النظام الدولي. هل يعود إلى ما كان عليه من محاولات فرض الهيمنة الأميركية الأحادية على القرار الدولي، أم يسلم باسدال الستار على هذا النظام الدولي لصالح التسليم بولادة نظام دولي وإقليمي متعدد الأقطاب تحكمه موازين القوى الجديدة، التي توفر متنفساً للكثير من شعوب العالم التي تناضل وتكافح للانعتاق من كل إشكال الهيمنة الاستعمارية والاحتلال كي تحقق حريتها واستقلالها وبناء نموذجها المستقل.

ويتركز النقاش حول ما إذا كان الرئيس الجديد للولايات المتحدة سوف يلجأ إلى استخدام القوة العسكرية والعودة إلى شن الحروب لتثبيت السيطرة الأميركية ومنع روسيا والصين من التمدد وتوسيع نطاق نفوذهما في العالم وفرض منظورهما لعالم متعدد الأقطاب، الأمر الذي قد يقود إلى اشتعال حرب عالمية ثالثة، حسبما يرى بعض الكتاب والمحللين السياسيين، انطلاقا من اعتقادهم بان أميركا لا يمكن أن تقبل بشراكة دولية لأن مثل هذه الشراكة سوف تقود إلى مزيد من تراجع نفوذ أميركا على الصعيد الدولي، واستطراداً إلى انتهاء عصر تحكمها بالقرار الاقتصادي الدولي، ما سيعني بالضرورة إعادة النظر بتركيبة المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية القائمة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والمبنية على قواعد تؤمن هيمنة أميركا على قراراتها، واستخدامها كسلاح من أسلحتها لإخضاع الدول وسلبها استقلالها.

ويبدو من الواضح أن هذا القلق من احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة أخذ يتنامى مع تصاعد التوتر مؤخرا بين روسيا وأميركا في أعقاب تعليق الاتفاق الأميركي الروسي بشأن حل الأزمة السورية، والمواقف النارية المتبادلة التي صدرت عن المسؤولين في الدولتين، والتي جرى على أثرها حشد المزيد من السفن الحربية في البحر المتوسط، في اكبر استعراض للقوة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

من هنا يطرح السؤال الملح في هذه الأيام، مع مجيئ الرئيس الأمييركي الجديد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والبدء بتشكيل إدارة أميركية جديدة، هل يؤدي احتدام الصراع بين أميركا وروسيا على طبيعة النظام الدولي والإقليمي إلى الاصطدام العسكري بينهما وبالتالي تفجر حرب عالمية ثالثة، أم أن ذلك ليس وارداً.؟

قد يكون القطع في الإجابة على ذلك غير منطقي، فالصراع بين الدول الكبرى عندما يصبح له هذا البعد المصيري، ويتقرر فيه مستقبل النظام الدولي برمته والأحجام فيه، من المستحيل الجزم بعدم وجود احتمال أن يؤدي ذلك إلى اندلاع الحرب.

لكن مع ذلك فان احتمال اندفاع أميركا إلى خيار الحرب مع روسيا يبدو أنه احتمالاً ضعيفاً، ولا يؤيده الرئيس الجديد دونالد ترامب، لعدة أسباب، أهمها:

أولاً: إن الولايات المتحدة خاضت ثلاثة حروب ولم تتمكن من تحقيق أي نتيجة، ويقول أوباما أن الحروب السابقة التي خضناها لم ننتهِ منها بعد ( هناك حربا أفغانستان والعراق) فعلى أي أساس يريدون توريطنا بحرب جديدة، طبعاً هذا الكلام لأوباما يعيد إحياء عقدة فيتنام، وهذا عامل مهم جداَ في تفسير خلفيات السياسة التي اعتمدتها إدارة أوباما.

ثانياً: النتائج التمهيدية للانتخابات الأميركية التي دللت بوضوح على اتجاهات السياسة الأميركية في مرحلة أوباما، والمرحلة المقبلة.

من المعروف أن من يقرر السياسات في أميركا هما النخبة والجمهور.

النخبة: الديمقراطية والجمهورية على السواء ركزت في الانتخابات على دعم المرشحين الذين يرفضون انتهاج سياسات تورط أميركا في حرب جديدة.

فالجمهوريون انتخبوا بنسبة 70 بالمائة المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي يرفض خيار الحرب وانتقد بشدة الرئيس السابق جورج بوش لزج أميركا في الحرب ضد العراق،.

أما النخبة الديمقراطية فقد سجلت الانتخابات التمهيدية انقسامها : خمسين بالمائة أيدوا هيلاري كلينتون، وخمسين بالمائة أيدوا منافسها.

وهذه النتائج التي رجحت انتخاب ترامب لرفضه الصريح العودة الى خيار شن الحروب في الخارج، تؤكد أن الغالبية من النخبة الأميركية تقف ضد خيار الحرب، وهذا يعكس التحول في موقف هذه النخبة، والمؤشرات على هذا التحول هي:

عام 2013 عندما طلب الرئيس أوباما الحصول على موافقة من الكونغرس على قرار شن الحرب، لم يوافق الكونغرس على إعطائه هذا التفويض، وهذا يعني أن النخبة الأميركية لم تكن مع الحرب.

ــ استطلاع الرأي الذي أجرته الصحافة الأميركية، أظهر أن 73 بالمائة عارضوا الحرب في تلك الفترة من عام 2013 .

ثالثاً: تضرر مصالح الشركات الأميركية

ذكر كبير الخبراء في صندوق النقد الدولي رداً على سؤال حول تقييمه لمعدلات نمو الاقتصاد العالمي:

أنه من عام 2010 إلى 2015 كان توزيع الناتج الإجمالي 36 بالمائة للعالم النامي، و64 بالمائة للعالم المتقدم إلاّ انه من 2015 إلى 2016 أصبح العكس هو الحاصل.

والسبب يعود إلى أن التوترات الجيو سياسة الناتجة عن سياسة الفوضى "البناءة" التي اعتمدتها السياسة الأميركية في الخارج أدت إلى هبوط معدلات النمو، ولهذا السبب بدأت تتأثر مصالح الشركات الأميركية سلباً، وهذا هو السبب الذي دفع النخبة الأميركية إلى أن تقف ضد قرار شن حروب جديدة.

ولأن اليهود يشكلون القوة المسيطرة في هذه الشركات ويهمهم المال ومراكمة الإرباح فأنهم، حسب مقال نشرته مجلة فورن بوليسيي، يريدون الهدوء والاستقرار.

إن العوامل المذكورة آنفاً مجتمعة هي التي حكمت موقف الرئيس الأميركي باراك أوباما، وستحكم موقف الرئيس الجديد وإدارته الجديدة.

وبالإضافة لهذه العوامل هناك ثلاثة عوامل أخرى تجعل احتمال نشوب حرب عالمية غير مرجح، وهي:

العامل الأول: اقتصادي، روسيا اليوم دولة رأسمالية لا تشكل نقيضاً ايدولوجيا للرأسمالية الغربية وأن كان هناك تنافساً بينهما، لكن في الوقت نفسه هناك مصالح مشتركة نابعة من نظام العولمة والشركات المتعددة الجنسيات، وهو أمر لم يكن قائماً عشيه اندلاع الحربين العالميتين، الأولى والثانية

العامل الثاني: إن الشعوب التي ذاقت مرارة وويلات حربين عالميتين من المستحيل أن تؤيد حصول حرب عالمية ثالثة ستكون نتائجها أفظع من نتائج الحربين المذكورتين اللتين ذهب ضحيتهما نحو ثلث سكان أوروبا.

وهذا ما يفسر الرفض الشعبي الأوروبي للحرب على العراق، وعندما ظهرت بوادر لشن حرب مماثلة خرجت مظاهرات واسعة تعارض الحرب .

العامل الثالث: الأسلحة النووية، اليوم جميع الدول الكبرى تملك الأسلحة النووية، ولدى هذه الأسلحة قدرة تدميرية كبيرة، وبفعل هذه الأسلحة لا تستطيع أي دولة أن تربح الحرب، ولهذا فان أميركا حرصت على التنسيق مع روسيا حتى لا يحصل تصادم، في الأجواء السورية، بين الطائرات الأميركية والطائرات الروسية.