ما إن أنهى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون خطاب القسم في قاعة مجلس النواب حتى شُرِّعَت نوافذ التحليل على العصف المقبل في التركيبة السياسية والادارية، بدءاً بأولى حكومات العهد.
ذهَب البعض الى حدّ الظنّ بتفجير صاعق نسف التركيبة الصلبة التي راكمت منذ ما بعد إتفاق الطائف بمرحلتي (الوجود والانسحاب السوري) وجودها على أنقاض دولة مهترئة يكسوها الدين العام الذي قفز الى ما فوق قمم العجز.
كثيرون وجدوا في وصول عون ضالّتهم نحو التغيير بعد حقبة واسعة من الجمود في صور الطبقة السياسية ووجوهها القابضة على المشهد، وآخرون هلّلوا لعلّهم ينالون في الحصة الجديدة نصيباً يعوّض الحرمان في زمن الاحتكار على حدّ وصفهم، فيما دغدغ الثأر من تركيبة الماضي بعض المنسيين والمهمّشين على سجلات الحكم والإدارة.
أمّا "متزلّفو" كل العهود وفي محاولة لركوبهم قطار عهد عون فقد كثّفوا من إطلالاتهم على المحطات التلفزيونية نفخاً في بوق العهد الجديد لعلهم يلحقون ركب محطة الوصول الى نادي "رجالات العهد" بعدما مارسوا عقداً من "الداعشية السياسية" في وجه من يُهللون له اليوم.
وللساعة وعلى مشارف الحكومة الجديدة ومن تسريبات التركيبة وأسماء الوزراء، يبدو أنّ رياح التغيير لم تأت بعد، وكل ما حكي عن إعصار ستشهده الحكومة لم يكن إلّا بالونات في فضاء الإعلام شريك كل العهود في مقبل عمرها، ورامي سهام الغدر والشك قبَيل طيّ صفحة سنينها الست. ذاك الاعلام المُهيمن عليه امّا طائفياً، حزبياً، او عبر رجال الاعمال الطامحين الى دخول نادي متعهدي مشاريع التمويل الحكومية ومزاريبها المالية.
وجوهر الفشل (حتى الساعة) في تحقيق العصف المنتظر يعود للتركيبة التي أوصلت الرئيس الى قصر بعبدا مكبّلاً بتفاهمات مسبقة لن يكون سهلاً عليه فك قيودها، تلك القيود التي تمدّدت سلاسلها لتشمل الحلفاء وحلفاءهم على الخطوط والجبهات كافة، ما كاد يقلّص حصة التيار البرتقالي على ما كانت عليه في عهود سابقة كحكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي وصلت فيها حصة تكتل "التغيير والاصلاح" الى عشرة وزراء. وهذا ما دفع الرئيس العتيد الى تدشين نادي التسريب الرسمي لوسائل الاعلام نقلاً عن دوائر قصر بعبدا بأنها «ليست أولى حكومات العهد».
وعليه، فإنّ عون العائد الى بعبدا تحت مظلة "اتفاق الطائف" اكتشف عملياً انّ جوهر النظام لم يعد يمنح رئيس البلاد اكثر من سلطة تعطيل التأليف وهو تعطيل على عهده ونفسه اولاً قبل ان يكون تعطيلاً على الآخرين ونهباً من أعمارهم. وعليه، وبقراءة واقعية، فتركيبة الحكومة المقبلة (كما باتت شبه محسومة)، ليست إلّا حكومة الرئيس تمام سلام مع بعض الترميم والتعديل، بحيث:
1 - يَرث عون حصة ميشال سليمان بوزيرين مسيحيين في حكومة الـ 24 وزيراً، وهذا ما ناله سليمان مضافاً اليه وزيراً شيعياً للشباب والرياضة عبد المطلب حناوي، وهو على ما يبدو انّ الرئيس نبيه بري لن يمنحه للرئيس الجديد اذا لم يقايضه بوزير مسيحي «كامل الدسم» الشيعي السياسي.
2 - حصة حزب الكتائب الثلاثية ستذهب الى "القوات" (مع تبديل بعض الحقائب والبقاء على البعض مثل الاعلام)، وبلا حقيبة سيادية ولو لم تكن أمنيّة كالدفاع والداخلية، وهو ما كان سبق واتفق عليه بين الثنائي المسيحي عشيّة الاستحقاق الرئاسي، الّا انه لم يلزم حليف الحليف "حزب الله" ومن بعده حلفاءه.
3 - بقاء الوزير ميشال فرعون في الحكومة مع إعطائه "نكهة قواتية" عشيّة الانتخابات، وتقليل من لونه السياسي الازرق من دون ان يعني تغيّراً في كرياته السياسية الضاربة في جذور حمضه النووي البيروتي.
4 - الحصة السنية على حالها مع استرداد الرئيس سعد الحريري وديعة سلام والابقاء على عماد الحصة وزير الداخلية نهاد المشنوق في وزارة الداخلية واستبدال الوزير المشاكس اللواء اشرف ريفي بنسخة منقّحة عنه عكارياً بالنائب معين المرعبي وطرابلسياً بالنائب محمد كبارة.
5 - نسخ الحصة الشيعية عن الحكومة السابقة مع تعديل بسيط قد يطرأ بتبديل الصناعة الى الزراعة (لحاجة لبنان الى خط عسكري أصفر يسهل حركة الاستيراد والتصدير من سوريا وإليها) فيما تبقى الحقيبة السيادية على حالها لوزير المال علي حسن خليل شريك توقيع المراسيم والباقي رغماً عن الفيتو عليه في اولى ايام التأليف، والذي انتهى بمجرد ان بلّغ حزب الله شريكه في النصر الرئاسي ان لا حكومة بلا علي الخليل.
6 - امّا التيار البرتقالي فحاله الوزارية على حاله في حقيبتي الخارجية السيادية بشخص الوزير جبران باسيل والطاقة بانتقالها من حليفه الطاشناق الى أحد المنتمين لنادي مستشاري الوزير البرتقالي النشيط.
7 - فيما يحافظ الدروز على التقوقع في ثنائية وزارية جنبلاطية بحكومة 24 وبثلاثية تنضم اليها دارة خلدة سواء بشخص النائب طلال ارسلان او بنسيبه الوزير السابق مروان خير الدين اذا ما وسّعت الحكومة الى 30 وزيراً.
وعليه، لا تزال لعبة التوازنات السياسية على حالها بعد انتخاب الرئيس كما قبلها في انتظار البرلمان المقبل وشكل حجم القوى السياسية فيه، وهذا ما دفع سيّد بعبدا الى القول: "ليست حكومة العهد الاولى".
الّا انّ السؤال هو أيّ تغيير سيطرأ على حكومة ما بعد الانتخابات؟ وهل في الافق قانون انتخابات عصري سيشرّع دخول قوى حية وبنسخ متطورة عن التركيبة الحالية الى المجلس؟ أم ستعود الكتل الطائفية والمذهبية مع بعض الترميم وبلا أيّ تغيير يذكر؟
وعليه، فحكومة العهد الاولى كما الأخيرة... الّا اذا شرّعنا باب التغيير بقانون يوسّع الدائرة الانتخابية ومن خارج القيد الطائفي ووفق النسبية.
امّا رياح التغيير فعليها اقتلاع الطائفية وربيبتها المذهبية من العقول والنصوص معاً وهذا ما لا يلوح في الافق.
ويبقى الأمل في وصول رياح التغيير، والّا فإنّ حكومة «الحواضر» ستحضر على طول حكومات العهد الجديد كما القديم.