لدى الرئيس ميشال عون في السعودية ذكرياتٌ ليس أفضلها اتفاق الطائف ولا ألطفها الفيتو الرئاسي الأول. لدى الرجل في السعودية ضوءٌ أخضر بقي مفقودًا طوال سنتين ونصف السنة الى أن وجد ضالّته في مسعًى من ابن المملكة الرئيس سعد الحريري. صار عون سيّد القصر وتبدّل كلّ الموضوع.
بواقعيّةٍ تتعاطى السعودية مع عملية وصول عون رغم الاعتراض الجلي ربما لا على شخصه الحادّ بل على المحور الذي انتمى اليه طوال أحد عشر عامًا وهو المحور الندّ للمملكة. حكمًا لم يستسِغ آل سعود تهنئة حليف حزب الله وبالتالي حليف إيران في منصبه الجديد، وحكمًا لم تكن بلادهم قادرة على فرملة التسوية “المفيدة” للرئيس المكلف سعد الحريري من باب تأمين عودته الى لبنان، خصوصًا أنها واظبت على الارتقاء بمعادلة “عدم التدخّل في الشؤون اللبنانية”.
خيارٌ غير ساقط...
هل يفتتح عون عهده “الخارجي” بزيارة الى السعودية؟ هو السؤال السابقُ لأوانه زمنيًا خصوصًا أن ملامح العهد الجديد لم تتبلور بعد حكوميًا وانتخابيًا، بيد أن طفوَّ هذا التساؤل على الشفاه مردُّه الى تسلّل معلوماتٍ تشي بأن زيارة الرئيس عون الى السعودية هي أحد بنود التسوية التي أتت به رئيسًا للجمهورية. تخميناتٌ لا تعيرها الرابية شديدَ الاهتمام لقناعةٍ في نفوس ناسها بأن أحدًا لا يمكنه أن يمنّن عون بمنصبه كونه له مستحقًا، ناهيك عن أن أحدًا لا يمكنه وضع شروط مسبقة عليه مرتبطة بتحرّكاته ومواقفه وثوابته. ومع ذلك علاقة الرئيس بالمملكة جيدة جدًا ولا مانع من زيارتها نزولاً عند دعوة العاهل السعودي عندما يكون الوقت مناسبًا”. وعلمت “البلد” أن خيار زيارة المملكة ليس ساقطًا من حسابات عون كبادرة “ردةّ إجر” على التهنئة التي حضر بها الأمير السعودي خالد الفيصل، أمير منطقة مكة ومستشار العاهل السعودي، ولكن لا يجوز تصوير الأمر على أنه لزامٌ على الرئيس أو ربطه عضويًا بالتسوية الرئاسية كواجبٍ أو كبندٍ رئيس “مُنزَل”. علمًا أن الرئيس وعد بتلبية الدعوة ما إن تتشكل الحكومة وتتضح معالم العهد”.
عوامل رمادية
لم تكن علاقة العماد عون بالمملكة سيئة، تمامًا كما لم تكن مميزة. فالسعودية لم تستطع يومًا التغاضي عن حقيقة أن عون هو حليف حزب الله، وعلى هذا الأساس كانت تتعامل معه بصفته عضوًا في محورٍ مناهضٍ لذاك الذي تدعمه المملكة. لا ودّ، لا غزل، لا بيع كلام، وفي المقابل لا مواقف تصعيدية ولا التزام بكلام حليفه السيد حسن نصرالله. كلّ تلك العوامل الرمادية جعلت من عون مرشحًا مقبولًا في نهاية المطاف بالنسبة الى آل سعود، خصوصًا أن من تقبّل ترشيح النائب سليمان فرنجية، الحليف الاستراتيجي اللصيق للرئيس السوري بشار الأسد، لن يصعب عليه تقبُّل ترشيح عمادٍ له تاريخٌ وباعٌ طويلان في النضال والشعبية. هنا بيت القصيد الذي ما انفكّ مؤيدو الجنرال يرتقون به وفحواه أن الفيتو السعودي “المزمن” على عون لم يكن مرتبطًا بتحالفه مع حزب الله في الدرجة الأولى وتجربة فرنجية هي الدليل، بقدر ما كان شخصيًا قائمًا على خشية من بعض الحكام السعوديين من شخصية عون غير المهادنة والتي يمكن أن تزعزع بعض الرؤى المرسومة سلفًا للبنان والمنطقة، بيد أن عودة الحريري الى الرئاسة الثالثة يمكن أن “تلوّن” الموضوع وتجعله أكثر هوانًا وليونة.
يوم وصلت اللقمة الى فمه
تسارعت الأحداث على خطّ العماد والمملكة. فيتو أوّل عمرُه أكثر من سنة واجهه عون بمزيدٍ من الإصرار. يومها وصلت اللقمة الى فمه وسحبها أحد أمراء آل سعود بإيحاءٍ سلبي من أحد زعماء لبنان الذين أمعنوا في رفضهم خيار عون. الصفعة التي تلقاها العماد يومذاك لم تكن كفيلةً بتغيير خطابه تجاه المملكة أو جعله أكثر عدوانيةً. حلّت تجربة فرنجية ففهمت المملكة أنها لن تفلح في تجاوز إرادة الرابية مقرونةً بإرادة مسيحية ثانية هي معراب. نقل الحريري كلّ الرسائل الرافضة. عادت حظوظ عون لترتفع غيابيًا. دعوةٌ من السفير السعودي علي عواض عسيري الى العشاء في أيار الفائت لم تستثنِ عون قالت الكثير لا بل عكست نيةً سعوديةً في إعادة حفظ ماء الوجه تجاه الزعيم المسيحي الأقوى في لبنان بعد محاولة “تقزيمه” وتحجيمه بخيار فرنجية. كان تطوّر الذبذبات السعودية السلبية تجاه لبنان اقتصاديًا وعسكريًا سببًا وجيهًا أمام الرابية للتصويب على المملكة وسياساتها لا سيما بعدما وصلت “الموسى” الى رقاب عددٍ لا يُستهان به من اللبنانيين المعتاشين من الرياض وجدة. صعّد السيد نصرالله بصورةٍ جنونية، وحمل وزير الخارجية جبران باسيل موقفًا رماديًا تجاه إدانة الهجوم الإيراني على السفارة السعودية في طهران ورفضًا صريحًا لخطواتٍ تصعيدية تجاه إيران في جامعة الدول العربية. زاد انزعاج المملكة فصبّت غضبها على الحكومة والجيش والعمّال: تجميد الهبة، رسائل بالجملة عبر مؤيديها في لبنان، وطرد بالعشرات، وبعدها تصنيفات عشوائية لحزب الله في إطار مجلس التعاون الخليجي.
حالة مأسوية
كلّ تلك الأحداث المتسارعة هزّت صورة الرابية في أعقاب موقف وزيرها (باسيل) ولكنها لم تكن حافزًا وجيهًا لقطع آخر خيوط التواصل، خصوصًا أن ابن المملكة المدلل في لبنان أي تيار المستقبل بقي يجالس حزب الله نفسه في حوار ثنائي رغم التصعيد مع المملكة. حسم الحريري خيارَه وعاد بضوءٍ أخضر سعودي هذه المرة من دون أن يكون للمشوّشين دور. نشط على الخطّ عشية انتخاب عون وزير المملكة لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، الذي نقل رسالة تهنئة مسبقة وفهم من الأطراف ماهيات اعتراضهم كما وماهيات تأييدهم. كان الوضع مأسويًا في لبنان، تمامًا كما كانت حال الحريري مأسوية لا سيما على المستوى الاقتصادي. انتُخِب عون فكانت رسالة تهنئة ثانية نقلها هذه المرة الأمير خالد الفيصل مرفقة بدعوةٍ من العاهل الملك سلمان بن عبد العزيز الى الرئيس المُنتخب لزيارة السعودية، وبعدها وعدٌ رئاسي لبناني بتلبيتها بعد الانتهاء من تشكيل الحكومة. فهم كثيرون بأن الزيارة الأولى للرئيس ستكون الى أرض المملكة استجابةً لرغبة الملك رغم أن رؤساء آخرين دعوا عون الى زيارة بلادهم وعلى رأسهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ربط نزاع متعثّر
استوت الأمور بين الرئاسة اللبنانية ودُور المملكة الحاكمة، ومعها نضجت آمالٌ باستنباط خشبات خلاص تشمل تحرير الهبة العسكرية للجيش وطمأنة اللبنانيين العاملين في الخليج وتسهيل الطريق أمام الملفات العالقة على خطّ المكوّن السني الذي تدعمه المملكة. استواءٌ لا يعد حكمًا بانسحابه على جبهتي المملكة وحزب الله طالما أن الساحة السورية تقف حائلًا بينهما، وطالما أن عملية ربط النزاع متعثرة في الداخل حتى الساعة أقله حكوميًا، فكم بالحري متى تعلق الأمر بأزمةٍ شائكة على شاكلة الأزمة السورية الكفيلة وحدها بالانتصار للسياسة الرمادية التي يحلو للرئيس نجيب ميقاتي أن يسميها “النأي بالنفس” والتي تجدي في مكان وتبهت في أمكنة!