على الرغم من التقدم الذي حققته عملية "درع الفرات" العسكرية، في ريف حلب الشمالي، يبدو أنها اليوم تصطدم بالفيتوات الروسية والأميركية معاً، نظراً إلى أن موسكو وواشنطن لا يريدان منح أنقرة، في الوقت الراهن، المزيد من أوراق القوة، الأمر الذي يدفع تركيا إلى السعي إلى الهروب، عبر إشعال حرب وهمية مع حلفاء القوتين العظميين، من خلال التهديدات التي تطلقها "قوات سوريا الديمقراطية"، بالتزامن مع إتهام دمشق باستهداف جنودها بالقرب من مدينة الباب السورية.
في الأيام الأخيرة، تم الحديث عن شبه إتفاق بين موسكو وأنقرة، يشمل مدينتي الباب وحلب، لكن وقوف الجيش التركي على عتبة الأولى يوحي بأن الفيتو الروسي السابق لا يزال قائماً، ربما بسبب عدم إلتزام الجانب الآخر في إنهاء أزمة الثانية، حيث كان من المفترض أن يكون الإتفاق يتضمن غض النظر الروسي عن تحرك أنقرة في الباب، مقابل إخلاء أحياء حلب الشرقية من فصائل المعارضة المسلحة، التي تحظى بدعم مباشر من جانب تركيا، والأخيرة كانت قد دعت عناصر جبهة "فتح الشام" الإرهابية إلى الإنسحاب من المدينة.
بالتزامن، جاء الإعلان عن أن التحالف الدولي لا يدعم العملية التركية نحو الباب، على لسان العقيد الاميركي جون دوريان المتحدث العسكري باسم التحالف، في مؤشر لعدم موافقة واشنطن على هذه الخطوة، نظراً إلى أنها ستقود إلى خلافات كبيرة مع الأكراد، في حين أن الولايات المتحدة تحتاج لهم في العملية التي تقوم بها في ريف الرقة الشمالي، الهادفة إلى عزل المعقل الأهم لتنظيم "داعش" الإرهابي على الأرض السورية في مدينة الرقة.
في ظل هذه الوقائع، لم يعد من الممكن أن تبقى أنقرة مكتوفة اليدين، خصوصاً أنها أعلنت، على مدى الأشهر السابقة، أنها راغبة بالذهاب نحو الباب على لسان كبار مسؤوليها، وبالتالي الفشل في هذا التوجه سيكون له تداعيات خطيرة على صورتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث ستكون في موقع العاجز أمام الإرادات الدولية، في حين هي تصور نفسها قوة لا يستهان فيها على المستوى الإقليمي، وهي لا تزال تذكر كيفية التعامل معها في معركة تحرير الموصل، بعد أن عارضت الحكومة العراقية أي دور لها في هذه المعركة.
ما تقدم دفع الحكومة التركية إلى الضغط للوصول إلى تسوية ما مع كل من موسكو وواشنطن، وهو ما كان ألمح إليه وزير الدفاع فكري إيشق، الذي تحدث عن أن أنقرة تبذل جميع الجهود لتنسيق الإجراءات مع روسيا والولايات المتحدة خلال العملية في الباب، لكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، حيث عمدت أنقرة إلى إشعال جبهة منبج ضد قوات "مجلس منبج العسكري"، المتحالفة مع قوات "سوريا الديمقراطية"، تحت عنوان طرد الأكراد منها، بالرغم من أن "قوات حماية الشعب الكردي" كانت قد أعلنت، في الأيام الأخيرة، إنسحابها من المدينة، بموجب إتفاق سابق بين الولايات المتحدة وتركيا.
بالتزامن، كان إتهام الجيش التركي، أمس، الجيش السوري بشن غارة جوية، في الباب، أدت إلى مقتل ثلاثة من جنودها وجرح عشرة آخرين، مع العلم أن دمشق لم تعترف، في أي مناسبة، بشرعية تواجد أي قوة تابعة لأنقرة على أراضيها، لا بل هي هددت في أكثر من مرة باستهدافها بعد وصفها بـ"الغازية" و"المحتلة"، ما يؤشر إلى إمكانية أن تكون القيادة السورية تريد فعلاً توجيه رسالة تؤكد فيها بأن هذه المدينة لم تخرج من دائرة حساباتها، وبالتالي الإقتراب التركي منها حتى ولو كان تحت عنوان محاربة "داعش" ممنوع، أو أن أنقرة تسعى إلى الضغط عبر هذا الإتهام للدفع نحو تسوية مع روسيا، على قاعدة أن خطر إندلاع مواجهة كبرى قائم، في حال عدم تدخل موسكو لمنع حصول ذلك، لا سيما أن الأخيرة تملك علاقة جيدة مع كل من أنقرة ودمشق.
في المحصلة، يدرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه لا يستطيع تحدي روسيا أو الولايات المتحدة على الأراضي السورية، وبالتالي هو عليه الإلتزام بالخطوط الحمراء التي توضع أمامه، لكن هذا لا يمنعه من السعي إلى اللعب على التناقضات، ولكن هل ينجح في إدارة هذا الأمر أم يدفع ثمنه؟