لم يكن اتفاق منظمة الدول المصدّرة للنفط «أوبك» الذي أُعلن إنجازه في فيينا الأربعاء الماضي عادياً. الاتفاق أراده الجميع، لكن السعودية - أكثر الدول حصة في الصادرات وأكثرها تأثيراً في المنظمة – أرادته لأسباب حيوية تمسّ عمق اقتصادها ومستقبله الذي أصبح على المحك
بعد مماطلة وعناد استمر لأكثر من عام، اضطرت السعودية أن تقبل بصفقة تخفّض بموجبها إنتاجها من النفط الخام بمعدل 486,000 برميل يومياً، فيما نصّ الإتفاق على عودة إيران إلى إنتاجها قبل العقوبات الدولية على صادراتها النفطية، بما يلامس 4 مليون برميل يومياً.
كواليس الصفقة والمفاوضات كشفت عنها وكالة رويترز في تقرير خاص أصدرته الخميس، كشفت فيه نقلاً عن مصادر من داخل أوبك أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لعب دوراً أساسياً في التوسط بين طهران والرياض. يذكر التقرير ان بوتين في لقائه مع ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في أيلول الفائت، على هامش قمة مجموعة الـ 20 في الصين، إتفق مع الأمير السعودي على التعاون لرفع أسعار النفط. وفي إجتماع الجزائر في أيلول الفائت، إتفق أعضاء أوبك - في المبدأ - على تقليص الإنتاج لكن لم تحدّد حصص كل دولة من عملية خفض الإنتاج. تمسّكت طهران بموقفها بعودة نسبة إنتاجها إلى ما كانت عليه قبل العقوبات، فيما أصرّ السعوديون على أن يشمل التقليص الإنتاج الإيراني الحالي. قبيل اجتماع فيينا، إتصل الرئيس بوتين بالرئيس الإيراني حسن روحاني، ثم توجه الأخير برفقة وزير النفط في حكومته بيجان زنكنه للقاء مرشد الثورة السيد علي خامنئي. خلال الإجتماع، أكد السيد خامنئي على "التمسك بخط إيران الأحمر، المتمثل بعدم الرضوخ لأي ضغوط سياسية وعدم قبول أي تخفيض في الانتاج في فيينا". شرح الوزير زنكنه للسيد استراتيجية طهران في التفاوض والتمسك بالعودة لمعدل الانتاج قبل العقوبات، فأعطى السيد الضوء الأخضر بالموافقة. أبلغ الرئيس بوتين محمد بن سلمان بالموفق الإيراني واقترح بأن تتحمّل السعودية حصّة الأسد في عملية تقليص الإنتاج، بعد إرساله إشارات أنّ السعوديين أبدوا استعداداً لإنجاز الصفقة شريطة عدم ظهور الأمر وكأن الرياض تنازلت لطهران. وافق بن سلمان وكان الاشتراط السعودي بأن لا يظهر الإيرانيون بمظهر المنتصرين عليهم، وهو ما عكسته تصريحات زنكنه الذي تجنب التعليق بنبرة المنتصر، وخرجت الصفقة الى النور مع تذليل عقبة أخيرة في إقناع العراقيين بتحمل جزء من التقليص.
لماذا التنازل؟
عوامل عديدة دفعت الرياض لتجرّع سمّ هزيمة سياسية جديدة أمام طهران، تمسّ في جوهرها عصب الحياة بالنسبة للمملكة. في قلب التنازل السعودي مخاوف جدّية من الاستمرار في الاستهلاك من احتياطات نقدها الأجنبي، لتغطية عجز الموازنة الآخذ في استنزاف خزينتها للعام الثاني على التوالي. قبل عام، حذّر صندوق النقد الدولي من أثر استمرار هبوط أسعار النفط على الاحتياطات الأجنبية السعودية، متوقعاً استهلاك الرياض كل احتياطاتها بحلول عام 2020 إذا لم يتمّ تدارك الموقف. أواخر عام 2014 بلغت احتياطات السعودية من النقد الاجنبي 737 مليار دولار، فيما استقرّت الأرقام عند 535.9 مليار دولار مع نهاية تشرين أول الماضي.
يؤكّد خبراء نفطيون
أن الصفقة لن تقدّم حلولاً مستدامة للرياض
سجّلت أرقام الموازنة العامة السعودية عام 2015 عجزاً بقيمة 98 مليار دولار، فيما يّتوقّع أن يلامس العجز هذا العام حدود 90 مليار دولار. لم تساهم إجراءات الطوارئ التي اتخذتها السعودية كثيراً في تعويض خسائرها، كون الاقتطاع من رواتب وعلاوات 3 مليون موظف في قطاعها العام لم يوفّر إلا حوالي 17 مليار دولار من مجمل إنفاقها الداخلي. يضاف إلى عوامل الأزمة، اضطرار الرياض الى بيع سندات بقيمة 17.5 مليار دولار منتصف تشرين أول الماضي، مع استحقاق دفع ديون متوجبة على الحكومة لشركتي سعودي بن لادن و سعودي أوجيه بقيمة 27 مليار دولار، أي أن حجم الاستفادة من عملية بيع السندات ذابت في بحر الالتزامات والديون المتراكمة. بحسب أرقام وكالة "موديز" للتصنيف الإئتماني، فإن نسبة الدين الى الناتج المحلي الاجمالي (debt-to-GDP) في السعودية ستبلغ 22% عام 2017 بعد ان سجلت 2.2% قبل أربع سنوات، وهي متوقعة أن تبلغ نسبة 30% عام 2020. كذلك نسبة النمو التي تقدّرها وكالة "بلومبيرغ" الأمريكية
بنحو 1.9% بانخفاض 5% عما كانت عليه بين عامي 2010 و 2015. كل هذه العوامل بالإضافة إلى استمرار الإنفاق على التسلّح لتغذية مصروفات حلف الرياض في عدوانه المستمر على اليمن، تدفع الملك سلمان وإبنه إلى استجداء صفقة تبقي على أمل بسيط بتخفيف الخسائر والحدّ من تآكل الاقتصاد، لكن شروط المهزوم المكابِرة امام الوقائع، دليل ضعف تؤكّده أرقام الجسم الإقتصادي السعودي.
نفط ترامب الصخري يرعب الرياض
يؤكّد خبراء نفطيون أن صفقة أوبك الأخيرة وإن ساهمت في رفع الأسعار قليلاً، لكنها لن تقدّم حلولاً مستدامة يمكن للرياض الركون إليها لإنعاش اقتصادها، كون إنتاج الأمريكيين للنفط الصخري سينتعش مع ارتفاع الأسعار، لأن كلفة الإنتاج ستصبح أقل من سعر البيع. هذه الحقيقة التي تخشاها الرياض تجعلها تمضي قدماً مضطرة في صفقة فيينا مع إبقاء عينها على واشنطن، حيث يتهيّأ ترامب لاستلام السلطة رسمياً في العشرين من الشهر القادم. قبل اسبوعين، أعلن ترامب في رسالة للأمريكيين سياسة أول 100 يوم من حكمه، ومن ضمن الأهداف التي أعلن عزمه تحقيقها، وضع استراتيجية نفطية جديدة، ستبدأ بإلغاء كل القوانين التي وضعها أوباما لإيقاف استخراج النفط الصخري لأسباب بيئية. كان الرئيس الأمريكي المنتخب قد توعّد الرياض خلال حملته الإنتخابية بتقليص استيراد النفط الخام السعودي في حال فوزه، وكل المؤشرات حتى الآن تدل على أنّ ترامب في طريقه للإقدام على الخطوة مع تحرّره من قيود اتفاقية المناخ التي تحدّ من نشاط شركات استخراج النفط الصخري. إذاً، أسعار النفط مرشّحة للعودة الى الهبوط مع انتعاش انتاج النفط الصخري، وهذا ما يرعب الرياض ويهدّد اقتصادها القائم على تصدير النفط بالدمار. في مقابلة مع صحيفة الـ "فاينانشال تايمز" منتصف تشرين الثاني الماضي، هدّد خالد الفالح وزير الطاقة والثروة المعدنية السعودي ترامب بعواقب أيّ قرار يتخذه الأخير بإيقاف استيراد الخام السعودي، جازماً بأنّ قراره لن يكون "صحيّاً" للاقتصاد الأمريكي. هذا التصريح استفرز الجمهوريين واستدعى رداً من نائب الحزب عن ولاية جورجيا "ستيفن سميث" في تغريدة على حسابه في "تويتر" ذكر فيها تهديد الفالح، مخاطباً السعوديين بالقول: "ترامب ليس كلينتون، احترموا أنفسكم".