ما تتطلبه السياسات الرشيدة لما يسمى بحكومات الدول الحديثة والمتطورة، هو التركيز على بناء الانسان وصون كرامته، من خلال ابرام قوانين تحفظ حقه وتحمي حريته وتساهم في بناء مستقبل البلد واستقراره.
اثبتت التجارب التي خبرها اللبنانيون ما بعد دستور الطائف، ان ما كان يفتقده المواطن في اثناء مرحلة تشكيل الحكومات هو الواقعية السياسية التي تعتبر ان السياسة هي كل ما يتصل بالحق الإنساني، وان الدولة وأجهزة السلطة التعبيرية عنها هي انعكاس لحاجات الناس ورؤيتهم، وليس رأيهم في الحكم وما هو مرتجى منه فقط. الكل خاض في الصراع على تنازع الحقائب. وما هو مؤسف ومخجل في آن توصيف - حقيبة وزارية ما- بأنها "سيادية" او "خدماتية" او "اساسية"، ونعت الحقائب بالوزارات دون المستوى، من غير تحديد المعايير او المستويات. اضف الى ذلك اعتبار هذه "الكتلة"، او هذه الشخصية، لا تليق بها هذه الحقيبة او تلك لانها "دون مستوى" الحيثية السياسية والشعبية التي تعبر عنها. هكذا سقط الجميع في فخ هَوَسْ الحقائب، وهستيريا الحصص من دون أي اعتبار لهيبة الوزارات التي تتشكل منها السلطة التنفيذية ومكونها الحكومي، أي مجلس الوزراء مجتمعا.
من يتابع ارهاصات مرحلة تشكيل الحكومات، والنزاع المستعر على حقائب دون أخرى، يظن لوهلة أولى أن التجاذب الحاصل انما يحصل في دول متطورة، تخوض الاحزاب فيها ترفا سياسيا يتوخى تغليب يمينا على يسار او العكس. ذلك ان في هذه الدول من المتانة والصلابة السياسيتين ما يجعل المنافسة بين مكوناتها تقع في اطار السعي الى خدمة الناس بطريقة مثلى وفُضلى، بغرض تطوير اوطانها وتأمين مستقبل زاهر لاجيالها، وبالتالي توسيع التمثيل الشعبي لها.
عند كل مرحلة، او في اي محطة من محطات المخاضات اللبنانية المديدة، يتيقن اللبنانيون اكثر فأكثر من انهم ابناء جماعات دينية ومذهبية وليسوا مواطنين تجمعهم هموم وآمال مشتركة. قواهم السياسية التي يُفترض انها تحمل برامج ورؤى ترمي الى توسيع قدراتها وحيثياتها التمثيلية، وايضا تسعى على نحو حثيث الى لنهوض بالبلد ليتحول الى دولة ووطن، لكن العكس من ذلك سرعان ما يتبدى في النزاعات والتجاذبات والسجالات التي تنحو الى تصوير حقيبة ما كأنها ضمان وجودي وفعل استمرار وخدماتي لهذا المذهب او تلك الطائفة، وان عدم نيلها يعني ذواب جماعة وبقاء الأخريات.
الصراع الذي يحصل يشي بأننا لم ندرك بعد ما قيل ذات مرة عن ان "الوطن أجمل الابتكارات". فالجميع يعمل للبقاء تحت صفة البلد وليس العمل للانتقال الى الجمهورية بكل ما تعني هذه المفردة من أهمية وتطور سياسيين. كما ان الحماوة الحزبية والطائفية والمذهبية على "بدع الحقائب السيادية" والتي تجعل اللبنانيين على اعصابهم لملء الفراغات المستطيرة في الجمهورية ،ومحاولة تعويض ما فاتنا وإعادة تمتين نسيج الوحدة الوطنية.
ان الحقائب الأخرى التي يرذلها المتنافسون في السباق الحكومي، كوزارات السياحة والثقافة والصناعة والاقتصاد والتنمية الادارية والشؤون الاجتماعية والبيئة والعمل، هي في الواقع أكثر حاجة اللبنانيين اليها، لا بل ان بعضها هو ما ابقى على لبنان خلال الفترة الماضية، وحال دون تحوله او تسميته "دولة فاشلة". الآن اكثر ما يحتاج اليه اللبنانيون لأمن وطنهم وحمايته، هو وزارات توفر لهم سبل العيش الكريم. تنتفي عنها صفة السيادية، لان الحكم هو من يؤمّن السيادة. كما ينبغي تصويب كلمة "وزارة خدماتية" لتصبح وزارة لخدمة كل الناس وليس التابعين لهذا او ذاك، لأن علاقتنا، ويا للاسف، بالكهرباء والمياه والاتصالات والصحة العامة والبيئة النظيفة والنظم التعليمية المتطورة صارت أشبه بعلاقة النظم التوتاليتارية بالديموقراطية.